You are currently viewing استقالة هليفي وتغيير قيادة وعقيدة الأمن الإحتلال

استقالة هليفي وتغيير قيادة وعقيدة الأمن الإحتلال

أثارت استقالة الجنرال هرتسي هليفي من رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي، التي ستدخل حيّز التنفيذ في السادس من مارس المقبل، ردود فعل متباينة في الرأي العام الإسرائيلي تمحورت حول مسألة من يتحمّل مسؤولية الإخفاق في السابع من أكتوبر. وذهبت أوساط اليمين الإسرائيلي المتطرّف، الذي يدور في فلك نتنياهو، إلى القول بأن الاستقالة هي دليل قاطع على مسؤولية المستوى العسكري، وليس السياسي، عن صدمة «طوفان الأقصى»، وعن الفشل في تحقيق أهداف الحرب المعلنة.
في المقابل أشار المتحدثون باسم المعارضة بأصابع الاتهام باتجاه نتنياهو، داعين إياه إلى تحمّل المسؤولية عن دوره، كرئيس وزراء لسنوات طويلة، في إنتاج الظروف التي أدت إلى انهيار خط الدفاع الإسرائيلي. ونادوا أيضا إلى إجراء انتخابات سريعة، لانتخاب حكومة تحظى بـ»ثقة الشعب». إلى جانب ذلك ازدادت المطالبة بتشكيل «لجنة تحقيق رسمية»، ذات صلاحيات قضائية لفحص دور المستويين السياسي والأمني والخروج باستنتاجات عامة وشخصية.
في رسالة الاستقالة الرسمية، التي وجهها لوزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ولرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وفي شريط مسجّل بثته القنوات الإسرائيلية، اعترف هليفي بالمسؤولية موضحا، «فشلت قوات الجيش بقيادتي في مهمة حماية مواطني إسرائيل. ودفعت الدولة ثمنا باهظا وموجعا في القتلى والجرحى والرهائن.. مسؤوليتي عن هذا الإخفاق الرهيب ترافقني كل يوم وكل ساعة وسترافقني مدى حياتي». واضطر رئيس الأركان المستقيل إلى تفنيد نظرية المؤامرة، التي انتشرت في بعض أوساط اليمين الإسرائيلي، التي تدّعي أنه كانت هناك «خيانة» وتعمّد للفشل بهدف إسقاط نتنياهو، وقد ردد هذه «النظرية» مقرّبون من نتنياهو، من بينهم ابنه يائير، الذي يعيش في فيلادلفيا. وقال هليفي: «أستطيع القول بثقة من الآن أن أحدا لم يخف معلومات، وألا أحد كان يعرف بالذي سيحدث، ولم يكن هناك من ساعد العدو في تنفيذ فظائعه». ويشير هذا النفي إلى عمق الخلافات والاتهامات المتبادلة بين أنصار نتنياهو ومعارضيه والمستويين السياسي والأمني في الدولة الصهيونية.

الفظيع في «الخلافات الإسرائيلية» أنّها تأتي على حساب الشعب الفلسطيني، فالكل يحاول أن يثبت «وطنيته» وإخلاصه للدولة الصهيونية من خلال التدافع في قتل الفلسطينيين

كان واضحا منذ أشهر طويلة أن هليفي سوف يقدم استقالته في «مرحلة ما» عندما تهدأ الحرب. وقد اختار موعد إنهاء الخدمة بعد الانتهاء من التحقيقات الداخلية في الجيش، وتنفيذ المرحلة الأولى من صفقة التبادل والهدنة في غزّة، واستعجل في الاستقالة بسبب «التنكيل» به من قبل المستوى السياسي، الذي وصل إلى حد أن نتنياهو اقترح على بن غفير تسجيل إقالة أو استقالة هليفي كإنجاز له. ونقلت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية أنّه «لم يعد يتحمل» أن يُفرض عليه تنفيذ مهام وعمليات بدوافع سياسية وليس أمنية. الفظيع في «الخلافات الإسرائيلية» أنّها تأتي على حساب الشعب الفلسطيني، فالكل يحاول أن يثبت «وطنيته» وإخلاصه للدولة الصهيونية من خلال التدافع في قتل الفلسطينيين، وزرع الخراب في أرضهم والدمار في مدنهم وقراهم.
من هو هليفي؟
ينتمي هليفي إلى عائلة يمينية، وكان جدّه من مؤسسي منظمة الإيتسل الإرهابية، ووالده كان عضوا في بلدية القدس عن حزب الليكود. لكن مواقفه السياسية الشخصية، مهما كانت، فهي قليلة الأهمية. المهم فعلا هو أعماله الفظيعة. وإن كان له موقف فقد عبّر عنه بوضوح في حرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل، وفي المسؤولية عن قتل أكثر من 47 ألف فلسطيني، جلّهم من الأطفال والنساء، وعن جرح ما يزيد عن 110 آلاف من أهالي القطاع وعن تدمير أكثر من 70% من المنازل والمرافق والبنى التحتية في غزة. وبهذا يتحمّل قائد الجيش الجنرال هليفي مسؤولية جرائم الحرب في غزة ولبنان وغيرهما، بالدرجة نفسها التي يتحمّلها رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الأمن غالانت. هذه ترويكا رأس هرم حرب الإبادة والتدمير، ويتحمّل أعضاء هذا الثلاثي المسؤولية ذاتها. وإذا كانت محكمة الجنايات الدولية قد أصدرت أوامر اعتقال ضد كل من نتنياهو وغالانت فإن هليفي يشاركهما في التهم الموجهة ضدهما، وربما «يتفوّق» عليهما بسبب مسؤوليته الميدانية المباشرة.
تغيير القيادة
بعد الإعلان عن استقالة هليفي، تبعه على الفور، قائد المنطقة الجنوبية للجيش الإسرائيلي الجنرال يرون فنكلمان، الذي سطّر في رسالة الاستقالة بأنّه يتحمل مسؤولية وتبعة الإخفاق في حماية «سكان النقب الغربي» يوم السابع من أكتوبر 2023. وسبقهما إلى الاستقالة، رئيس شعبة المخابرات العسكرية السابق الجنرال أهرون حليوة. ومن المتوقّع أن يلحق بهؤلاء في الاستقالة، قائد المنطقة الجنوبية السابق الجنرال إليعزر طوليدانو، وقائد قسم العمليات الجنرال عوديد بسيوك، ونائب رئيس الأركان الجنرال أمير برعام. إضافة لهؤلاء خرج من الخدمة عدد لا بأس به من القادة الميدانيين وضبّاط الصفّ الثاني، وقد ترتفع أعداد المستقيلين في الفترة المقبلة. من المؤكّد أن يتولّى نتنياهو تعيين رئيس الأركان الجديد وضبّاط الصف الأول كافة، الذي سيخلفون المستقيلين. وهو سيستغل الوضع لتحميل من أخلوا مناصبهم مسؤولية الفشل ولتعيين ضبّاط آخرين أقرب إليه شخصيا وسياسيا. ولعل أهم التعيينات هي منصب رئيس الأركان، الذي يعد المدير العام لوزارة الأمن الإسرائيلية الجنرال إيال زامير أقوى المرشحين لتوليه، خاصة أنه يحظى بثقة نتنياهو. وليس من المتوقّع أن يثير تعيينه معارضة في هيئة الأركان والقيادات العسكرية الميدانية، وهناك تقدير لمؤهلاته لدى غالبية النخب الأمنية والسياسية الإسرائيلية. لكن نتنياهو قد يفاجئ ويختار سكرتيره الأمني صغير السن وقليل التجربة نسبيا الجنرال رومان جوفمان، الذي يرشّحه اليمين المتطرّف لإحداث «انقلاب» في القيادة العسكرية الإسرائيلية في خدمة أجندته. وإذا رافق هذا التعيين دفع رئيس الشاباك رونين بار للاستقالة وتعيين مئير من شابات، المقرّب من نتنياهو، فإننا أمام صدام مكشوف ومجهول النتائج بين نتنياهو والمؤسسة الأمنية.
تكمن أهمية استقالة الجنرال هليفي بأنّها تندرج ضمن تغيير كبير في القيادة الأمنية الإسرائيلية. تاريخيا، جاءت غالبية هذه القيادة من الكيبوتسات ومن أوساط اليسار الصهيوني وتلامذة بن غوريون، وكانت شكوى اليمين التقليدية هي أن المنظومة الأمنية خارجة عن سيطرته، وأنها تمثل «الدولة العميقة». وما نشهده هذه الأيام هو عملية تحوّل كبرى يسيطر فيها اليمين العلماني والديني على مفاصل الأمن الإسرائيلي. لا يحدث هذا دفعة واحدة، بل هي صيرورة باتجاه واحد، وما يجري الآن هو طفرة كبرى في هذه المسار.
تغيير العقيدة
لكن صيرورة التغيير لا تتوقف عند الأشخاص وميولهم، بل تحصل أيضا في صلب العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي مرّت بهزّة كبرى في السابع من أكتوبر، وما تلاه من حرب إبادة، حيث ارتجّت بفعل الصدمة ركائز مفهوم الأمن الإسرائيلي الرسمية: الردع والإنذار والدفاع والحسم. ومنذ بداية الحرب تجري عملية إعادة نظر شاملة حول الوزن النسبي والنوعي لكل مرتكزات الأمن، بما فيها المنع والإحباط والتحالفات الإقليمية والاعتماد على العلاقة بالولايات المتحدة، إضافة إلى مناقشة قضايا استراتيجيات الحرب القصيرة أم الطويلة، ومعنى الانتصار في الحرب، ومراجعة مبدأ «إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها» ومفهوم «جيش الشعب» وغيرها. ويمكن القول بالمجمل إن المنحى العام للتغيير في العقيدة الأمنية الإسرائيلية هو أنها تتحول باتجاه أشد عنفا وعدوانية وشراسة ووحشية وأكثر اعتمادا على الهجوم الفتّاك والمدمّر وعلى الحروب الاستباقية وعلى استعمال القوّة كخيار أوّل.
تمر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بتحوّل كبير بفعل ثلاثة عوامل: أوّلها، التأثير السياسي المباشر لليمين المتطرّف، استنادا إلى أن الحكومة منتخبة من الشعب وأن على مؤسسات الدولة أن تخضع لها، وأن تكون على شاكلتها، وثانيها، استبدال القيادة العسكرية والأمنية بمن هم أكثر تشدّدا وشراسة من الناحية الأمنية، وأقرب إلى عقيدة اليمين المتطرّف من الناحية السياسية، وثالثها، تغييرات في العقيدة الأمنية باتجاه أكثر استعدادا لارتكاب الفظائع والجرائم وخوض المغامرات. ما يجري في إسرائيل هو انكماش للبعد السياسي وانتفاخ في البعد الأمني في التعامل مع القضية الفلسطينية. وإذا كانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في الماضي «أكثر اعتدالا» في تعاملها مع السلطة الفلسطينية من الحكومة الإسرائيلية، فإن هذا قد يتغيّر قريبا وليس بعيدا. كما أن إسرائيل لم تغلق إلى الآن أي جبهة، لا غزة ولا لبنان ولا اليمن ولا إيران ولا سوريا ولا حتى العراق، وعليه فإن سيطرة اليمين المتطرف المباشرة على الجيش والحكومة، تضعنا على عتبة مرحلة لا تقل خطورة عما كان إلى الآن، ولربما يساعدها في ذلك «عامل ترامب». أضعف الإيمان في هذا الظرف وفي هذه المرحلة هو وقف التنسيق الأمني فلسطينيا، والامتناع عن التطبيع السياسي والتحالف الأمني مع إسرائيل عربيا.

جمال زحالقة
كاتب وباحث فلسطيني

المصدر: القدس العربي

https://www.alquds.co.uk/%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d9%82%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d9%87%d9%84%d9%8a%d9%81%d9%8a-%d9%88%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1-%d9%82%d9%8a%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%88%d8%b9%d9%82%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3/

شارك المقالة