بقلم: محمد نجاح علي
تركيا تعيش اليوم في خضم أزمة سياسية واقتصادية متعددة الأوجه، تتصدرها اعتقالات قيادات المعارضة، وعلى رأسهم أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، بتهم الفساد ودعم الإرهاب. هذه الخطوة أعادت إلى الأذهان محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، لكن باختلافات جوهرية. ففي ذلك الوقت، كان أردوغان في موقع المدافع عن نظامه ضد تهديد عسكري وبدعم مباشر من روسيا وإيران ، أما اليوم فهو من يوجه الضربات لخصومه السياسيين عبر أدوات الدولة، في محاولة لتثبيت قبضته على السلطة قبل الانتخابات المقبلة. وفي خلفية هذه الأحداث، تبرز “لعنة سوريا” التي تلاحق أردوغان ، رغم سيطرته على الحكم في دمشق عبر أبو محمد الجولاني، الذي أصبح رئيسًا لسوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وإدارة الظهر لشريكيه في تفاهمات آستانة، روسيا وإيران.
إستهداف المعارضة
اعتقال أكرم إمام أوغلو، أحد أبرز وجوه المعارضة التركية، جاء في إطار حملة قمعية واسعة تستهدف كما يقول خصومه، إسكات الأصوات المعارضة قبل الانتخابات. إمام أوغلو، الذي فاز برئاسة بلدية إسطنبول في 2019، يمثل تهديدًا حقيقيًا لأردوغان، خاصة مع تزايد شعبية المعارضة في المدن الكبرى. الاعتقال، الذي جاء بعد حملة إعلامية ممنهجة وإلغاء شهادة إمام أوغلو الجامعية، يُنظر إليه على نطاق واسع بأنه يهدف إلى قطع الطريق أمام أي منافسة محتملة. لكن هذه الخطوة قد تأتي بنتائج عكسية، حيث تزيد من الاستياء الشعبي وتدفع المزيد من الأتراك إلى دعم المعارضة.
الهيمنة عبر الجولاني
على الجانب الإقليمي، تواصل تركيا لعب دور رئيس في المشهد السوري،إلى جانب الكيان الصهيوني الذي يتقاطع معها في بعض المفاصل ، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد ووصول أبو محمد الجولاني إلى سدة الحكم. الجولاني، الذي كان في السابق زعيمًا لهيئة تحرير الشام، أصبح الآن رئيسًا لسوريا، وهو ما يمثل انتصارًا كبيرًا لتركيا. فقد نجح أردوغان في تحويل سوريا إلى منطقة نفوذ تركية، حيث تُدار البلاد بشكل غير مباشر عبر الجولاني، الذي يعتبر من وجهة نظر كثيرين، أداة بيد أنقرة. هذه السيطرة تعزز موقع تركيا الإقليمي، لكنها تأتي بتكلفة اقتصادية وسياسية باهظة.
لعنة سوريا
رغم السيطرة على سوريا عبر الجولاني، إلا أن “لعنة سوريا” لا تزال تلاحق أردوغان. فالتدخل التركي في سوريا أدى إلى استنزاف اقتصادي وسياسي كبير، حيث أصبحت أزمة اللاجئين ورقة ضغط داخلية تستخدمها المعارضة لانتقاد سياسات أردوغان. بالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات مع روسيا وإيران، اللتين تعارضان نظام الجولاني بشكل غير مباشر، أصبحت أكثر تعقيدًا، خاصة مع بقاء النفوذ الروسي في المنطقة. هذه التحديات تجعل سوريا عبئًا ثقيلًا على أردوغان، رغم سيطرته الظاهرية على الحكم في دمشق.
التحديات
الوضع الاقتصادي في تركيا يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى الأزمة السياسية. فبعد سنوات من النمو الاقتصادي النسبي، تعاني البلاد اليوم من انهيار العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، مما أدى إلى تزايد الاستياء الشعبي. المعارضة التركية، التي كانت ضعيفة في السابق، أصبحت أكثر تنظيمًا وتأثيرًا، خاصة بعد نجاحها في تحقيق مكاسب انتخابية مهمة، مثل فوز إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول. هذه التطورات تضع أردوغان في موقف صعب، حيث يواجه أزمة شرعية داخلية تهدد بقاءه في السلطة.
بين العزلة والتحالفات
على الصعيد الإقليمي، تواجه تركيا تحديات كبيرة في علاقاتها مع جيرانها. سقوط الأسد ووصول الجولاني إلى السلطة أدى إلى تغيير في موازين القوى، حيث أصبحت روسيا وإيران أكثر حذرًا في تعاملها مع أنقرة. تركيا، التي كانت تعتمد على تحالفات مع بعض الفصائل السورية، وجدت نفسها في موقف يحتاج إلى إعادة تقييم، خاصة مع تزايد الأصوات السورية المعارضة (المدنية) لنموذج الجولاني في الحكم . العلاقات مع الاتحاد الأوروبي أيضًا تشهد توترات، خاصة بعد انتقادات واسعة لاعتقال إمام أوغلو وتهم الفساد الموجهة إليه. هذه العزلة الدولية تزيد من صعوبة موقف أردوغان، الذي كان يعتمد في السابق على تحالفات إقليمية ودولية لدعم سياساته. لكن يمكن القول إنه بدأ يعتمد كلياً على وعود ضبابية من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
مستقبل أردوغان
يبدو أن أردوغان يواجه أزمة وجودية. فمن ناحية، هناك ضغوط داخلية متزايدة من قبل المعارضة والشعب الذي يعاني من الأزمات الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، هناك تحديات إقليمية كبيرة، خاصة مع صعود الجولاني في سوريا وتغير موازين القوى في المنطقة. إذا كان أردوغان قد نجح في الماضي في تجاوز أزمات كبيرة، مثل محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، فإن الوضع اليوم يبدو أكثر تعقيدًا. فالتحديات التي يواجهها الآن ليست فقط أمنية أو سياسية، ولكنها أيضًا اقتصادية واجتماعية، مما يجعل مهمة البقاء في السلطة أكثر صعوبة.
لعنة سوريا تلاحق أردوغان
سوريا، التي كانت في يوم من الأيام ورقة رابحة في سياسات أردوغان الإقليمية، أصبحت اليوم بمثابة “لعنة” تلاحقه. سقوط الأسد ووصول الجولاني إلى السلطة أعاد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، ووضع تركيا في موقع المهيمن، لكن بتكلفة عالية. أردوغان، الذي كان يأمل في أن تكون سوريا بوابة لتعزيز نفوذه الإقليمي، وجد نفسه في مواجهة واقع جديد مليء بالتحديات. إذا كان أردوغان سيتمكن من الخروج من هذه الأزمة، فإن ذلك سيعتمد على قدرته على إعادة تشكيل سياساته الداخلية والخارجية، والتعامل مع “لعنة سوريا” التي أصبحت التحدي الأكبر في مسيرته السياسية.
في النهاية، تظل تركيا نقطة محورية في التوازنات الإقليمية والدولية، وسواء بقي أردوغان في السلطة أو سقط، فإن الأحداث هناك ستظل تؤثر على العديد من اللاعبين في المنطقة، من إيران وروسيا إلى القوى الخليجية والمصرية. لكن يبقى أن “لعنة سوريا” هي التحدي الأكبر الذي يواجه أردوغان، والذي قد يكون المفتاح لفهم مستقبل تركيا والمنطقة ككل.
المصدر: رأي اليوم