عبد الباري عطوان
من أهم الفقرات التي وردت في كتاب “الحرب” للصحافي الأمريكي بوب ودورد تلك التي تقول “ان الرئيس عبد الفتاح السيسي ابلغ وزير الخارجية الامريكي السابق انتوني بلينكن في آخر زيارة له للقاهرة قبيل خروجه من السلطة، وبالتحديد في تشرين اول (أكتوبر) عام 2024 “انه كرئيس جمهورية لمصر يركز على هدفين: الأول، الحفاظ على اتفاقات كامب ديفيد، والثاني رفض ومقاومة أي محاولة لتهجير اكثر من مليوني فلسطيني من قطاع غزة الى مصر”.
ad
تذكرت هذه الفقرة الواردة في الكتاب المذكور وما يجري حاليا من تطورات على الساحتين المصرية والإسرائيلية لعدة أسباب:
الأول: رفض السلطات المصرية “الصلب” لجميع الضغوط الامريكية لتطبيق خطة الرئيس الأمريكي ترامب لإفراغ قطاع غزة من سكانه وتحويله الى “ريفييرا” الشرق الأوسط، ولكن للسياح الإسرائيليين والعالميين وتجار العقارات الأمريكيين، وبعض اليهود منهم خاصة.
الثاني: عدم تلبية الرئيس السيسي لدعوة من الرئيس ترامب لزيارة البيت الأبيض لمناقشة مشروع التهجير المذكور رغم الضغوط والتهديدات بوقف المساعدات، وحسنا فعل، لانه كان سيواجه “تطاولا” ربما أكثر وقاحة لمثل ذلك الذي حدث للرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي، فمن يرفض طلب رئيس امريكي متهور ومتغطرس مثل دونالد ترامب في زمن الانهيار العربي الحالي.
ad
الثالث: الحملات الإعلامية والتسريبات الصحافية التي تطفح بها وسائل الاتصال الإسرائيلية هذه الأيام ضد مصر وجيشها وقيادتها، وعلى ألسنة مسؤولين عسكريين إسرائيليين من الصف الأول مثل هرتسي هاليفي رئيس هيئة اركان الجيش الإسرائيلي المطرود، وتؤكد المخاوف من قدرات مصر العسكرية، وتعاظم قوة جيشها، وإنفاق مئات الملايين من الدولارات سنويا لتجهيزه بمعدات وأسلحة حديثة متطورة.
الرابع والأهم: الخطاب “الناري” ولهجته غير المسبوقة ومنذ عشرات السنوات، الذي القاه اليوم الرئيس عبد الفتاح السيسي بمناسبة يوم الشهيد وفاجأ الجميع، سواء الحضور او متابعينه على الشاشات، عندما قال “فلسطين قضية مصر الأولى التي لن نفرط فيها مطلقا، وسنقدم للفلسطينيين كل عمل يساندهم في معركة البقاء والمصير”، وأضاف “جئت الى هذا الاحتفال لإرسال رسالة الى اصحاب العطاء من شهدائنا الأبرار من أجل بقاء هذ الوطن والحفاظ على مقدرات شعبنا العظيم التي تعبر بجلاء عن إرادة هذه الامة وتاريخها بأنها قادرة وقاهرة لكل مانع يقف حاجزا امام تحقيق أمنها وسلامتها وريادتها، وان لهذا الوطن رجالا صنعوا المستحيل، وحققوا لمصر صمودا في الماضي والحاضر”.
***
ما جاء في هذه النقاط الاربع، والنغمة التصعيدية الجديدة لخطاب الرئيس السيسي المذكور الذي اختار إلقائه في هذه المناسبة الاحتفالية بشهداء مصر التي تتصادف ذكراها من حسن الطالع مع انتصار حرب العاشر من رمضان علم 1973، كلها تعكس مؤشرات تؤكد وتوضح بداية توتر في العلاقات المصرية الاسرائيلية، والمصرية الامريكية، وتوجه جديد يتبلور حول محاولات للدولة المصرية لاستعادة ريادتها وقيادتها، وأحد أبرز ملامحها عقد القمة العربية الطارئة الأخيرة في القاهرة رغم تحفظات البعض على نتائجها.
هناك تحديان رئيسيان يواجهان القيادة المصرية في الوقت الراهن:
الأول: رفض دولة الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من محور صلاح الدين على الحدود المصرية الفلسطينية (قطاع غزة) تطبيقا للمرحلة الأولى لاتفاق وقف اطلاق النار، وبدء المرحلة الثانية التي تنص على الانسحاب الكامل ووقف اطلاق النار بشكل دائم الأمر الذي يشكل تحديا حقيقيا لمصر وقيادتها وجيشها.
الثاني: اغلاق جميع المعابر الى القطاع مجددا بما فيها معبر رفح، ومنع وصول جميع المساعدات الإنسانية، وإعلان حرب التجويع على مليونين ونصف المليون من أبنائه، مما يعني عودة حرب الإبادة بصورة دائمة، فهل تصمت القيادة المصرية؟
نحن بسردنا هذا لا نتحدث عن حرب وشيكة بين الجيشين المصري والإسرائيلي، ونخفض سقف توقعاتنا، ولكن احتمالات هذه الحرب تظل غير مستبعدة من وجهة نظر الكثير من القيادات العسكرية الإسرائيلية التي تملك المعلومات المرجحة التي حصلوا عليها بحكم موقعهم في المؤسسة العسكرية، وجميع الحروب تحدث فجأة على أي حال.
الجنرال يهودا بلانغا الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي أكد في مقال نشره في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية قبل يومين ان مصر بنت 60 معبرا من الجسور والانفاق تحت قناة السويس وفوقها منذ عام 2004، وانشأت عشرات مستودعات الذخيرة، ومواد التخزين، والوقود تحت الأرض في سيناء، وأضاف ان الجيش المصري يحتل المرتبة 11 عالميا، قوة وتعدادا وتسليحا بما في ذلك قوة جوية مكونة من 600 طائرة حربية من بينها 350 مقاتلة حديثة، و3500 دبابة، و460 الف جندي نظامي، و480 الف جندي احتياط، وأشار الى ان “الادعاء” بأن هذه القوة العسكرية تهدف الى مواجهة أخطار سد النهضة الاثيوبي، او حركة “داعش” في سيناء ادعاءات مضللة، فالهدف هو إسرائيل في الحاضر والمستقبل، التي ما زالت هي العدو الأكبر في عقيدة الجيش المصري القتالية، ويحتل هذا التوصيف المساحات الأكبر في وسائل الاعلام، والنظام التعليمي في المدارس والجامعات.
***
البعض يجادل، سواء داخل مصر او في الوطن العربي، وهذا من حقه، بأن مصر تعطي الأولوية للأمن القومي المصري، وجيشها يتحدث للدفاع عنها، وحماية مصالحها، وهذا ينطوي على الكثير من الصحة، وما الخطأ في ذلك، اليس جميع الدول العربية تتبنى النهج نفسه، ولكن علينا التذكير بأننا خسرنا جميع الجيوش العربية كنتيجة للمؤامرات الصهيونية والحروب الامريكية، ونحن نتحدث هنا عن تفكيك الجيشين العراقي والسوري، وتكبيل الأردني بالتطبيع وباتفاقات عسكرية، وإضعاف المقاومة الإسلامية اللبنانية بعد مؤامرة البيجرات، والقصف الإبادي والسجادي للجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية، واغتيال جميع قادة الصف الأول وعلى رأسهم سيد الشهداء حسن نصر الله، ولهذا لم يبق لنا حتى الآن الا الجيش المصري، ويبدو ان الصبر الاستراتيجي المصري إقترب من الوصول الى نهايته بسبب الاستفزازات الإسرائيلية المتصاعدة، او هذا ما نأمله، ولا بد من الاعتراف بأن منع تهجير أهلنا في قطاع غزة حتى الآن هو إنجاز كبير، وقد يكون بداية إنجازات أخرى قادمة من مصر التي خاضت اربع حروب نصرة للقضية الفلسطينية قدمت خلالها آلاف الشهداء، وتعرضت قناتها للتدمير اثناء حرب الاستنزاف الخامسة.. وتفاءلوا بالشيء تجدوه.. والأيام بيننا.
المصدر: رأي اليوم