عبد الباري عطوان
السّقوط المُفاجئ لدِمشق ومُدُن سوريّة كُبرى مِثل حلب وحماة وحمص دون أيّ مُقاومة لقوّات المُعارضة السوريّة المُسلّحة بقيادة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا) يكشف عن الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي اتّبعه “محور المُقاومة” الذي يتلخّص في سياسة النّفس الطّويل، والصّبر الاستراتيجيّ، وتجنّب المُواجهة سواءً مع خُصومه الإسرائيليين أو حتّى الفصائل المحليّة المدعومة من أمريكا (قسد)، أو حُكومة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان.
نشرح أكثر بالبدء بالجبهة السوريّة التي كانت هدفًا دائمًا لغاراتٍ إسرائيليّة استهدفت القوّات الإيرانيّة وتجمّعاتها في سورية، واغتيال كبار جنرالاتها، ووصل الأمر إلى قصف القنصليّة الإيرانيّة في العاصمة السوريّة وقتل عددٍ كبير من العسكريين الكِبار فيها.
أمّا إذا انتقلنا إلى لبنان، فقد تجنّبت المُقاومة الإسلاميّة فيه لما يقرب من العام أيّ استخدامٍ لصواريخها الثّقيلة والدّقيقة للرّد على مجازر الجيش الإسرائيلي وحرب إبادته سواءً في قطاع غزة أو جنوب لبنان، والذّريعة كانت عدم توسيع الحرب، وتجنّب مُواجهة مُباشرة مع دولة الاحتلال يُمكن أن تُؤدّي إلى قصفٍ سجّاديّ للعاصمة بيروت، تمسّكًا بنظريّة ضبْط النّفس والصّبر الاستراتيجيّ، وها هي دولة الاحتلال الإسرائيلي تُدمّر الضّاحية الجنوبيّة في بيروت، ومُعظم قُرى وبلدات الجنوب اللبناني، علاوةً على البقاع وغيرها، وارتكاب مجزرة البيجرات، واغتيال مُعظم قادة الصّف الأوّل لحزب الله على رأسِهم سيّد الشّهداء حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين.
***
ألمْ يَكُن أشرف للرئيس السوري بشار الأسد أنْ يستشهد على الأراضي السوريّة، ووسط شعبه وجُنوده، وهو يُواجه عُدوانًا إسرائيليًّا ويرد بقصف عُمُق إسرائيل بصواريخٍ سوريّةٍ ثقيلة، بالطّائرات المُسيّرة، وحتّى اقتِحام الحُدود لتحرير الجولان، من أن ينتهي لاجئًا “إنسانيًّا” في روسيا التي لم تتجاوب مع طلباته في حماية نظامه، بالتدخّل بشكلٍ مُباشر، أو تزويد جيشه بالأسلحة الدفاعيّة الحديثة المُتطوّرة مِثل صواريخ “إس 400” أو “إس 500؟
دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت ترتعد خوفًا من منظومة صواريخ ومُسيّرات “حزب الله” ولو جرى إطلاق زخّات من الصّواريخ الثّقيلة والدّقيقة لتدمير بنايات في وسط حيفا وتل أبيب وتدميرها، كرَدٍّ على ما فعلته الطّائرات الإسرائيليّة في الضّاحية الجنوبيّة، أو بضرب البُنى التحتيّة الإسرائيليّة مِثل محطّات الكهرباء والمياه لما انتهى الحزب هذه النّهاية بفُقدان قادته، وإبعاد حاضنته من معاقلها في جنوب لبنان، وتدمير عاصمته، أي الضّاحية الجنوبيّة، وكانَ المُقابل اتّفاق هش لوقف إطلاق النّار لم يحترمه نتنياهو، ولن يحترمه في المُستقبل المنظور على الأقل.
الشّرق الأوسط الجديد الذي يُريد نتنياهو تأسيسه كانت لبنته الأُولى “تقزيم” لبنان، والمُقاومة فيه، وتكبيله باتّفاقات أتقن هوكشتاين المبعوث الأمريكي، الضّابط السّابق في الجيش الإسرائيلي، إعدادها للوصول إلى هذه النّتيجة، أمّا اللبنة الثانية فتتمثّل حاليًّا في اجتياح العُدوان الثّلاثي التركي الأمريكي الإسرائيلي لسورية، وإسقاط نظامها دون إطلاق رصاصة واحدة، ولا نستبعد أن تكون “اللبنة” الثالثة إيران، فنتنياهو قال إنّه قَبِلَ باتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان حتّى يتفرّغ لإنجاز انتصاره السّاحق على غزة وإيران.
محور المُقاومة ارتكب أخطاءً استراتيجيّةً بتردّده في الرّد السّريع على المُخطّطات الأمريكيّة الإسرائيليّة لتفكيكه وقطع أذرعته، والاستِثناء الوحيد كانَ قطاع غزة، وزعيمه الشّهيد يحيى السنوار الذي لم يُرهبه العدو الإسرائيلي، ولم يلتزم بسياسة ضبْط النّفس والصّبر الاستراتيجي وحقّق أكبر انتصارٍ على العدو الإسرائيلي بإطلاق “طُوفان الأقصى” ونقل المعركة إلى مُستوطناته في العُمُق الفِلسطيني المُحتل.
هذا المحور، وبعد سُقوط سورية “دُرّة تاجه”، مُطالبٌ بإجراءِ مُراجعاتٍ جذريّةٍ، وتغيير سياسة الصّبر الاستراتيجيّ التي أعطت نتائج عكسيّة، والتّسريع في إنتاج أسلحة نوويّة دفاعيّة، ومُواجهة هذه المُخطّطات الإسرائيليّة دون خوف أو هلع، فهذا المُعسكر الأمريكي الصّهيوني لا يفهم إلّا لغة القوّة، فعندما كانت أذرع المُقاومة قويّة لا تخافه، كانَ هذا المُعسكر لا يجرؤ على اغتيال مُجاهدٍ واحد في لبنان أو غيره خوفًا من الرّد المُزلزِل.
***
أمس ألغى نتنياهو اتّفاق عام 1974 مع سورية، واحتلّ جبل الشيخ والمِنطقة العازلة في الجانب السوري من الجولان، وقصف قواعد جويّة ومخازن أسلحة في العُمُق السوري رُغم أنّ النّظام السّابق قلب محور المُقاومة لم يعد موجودًا، وجرى إسقاطه واستِبداله بنظامٍ يدين بالولاء للولايات المتحدة، ويأخذ تعليماته من تركيا حليفته المُخلصة.
للأسف لم يعد هُناك عرب ولا مُسلمين، وتغيير النظام في سورية رغم تحفّظاتنا العديدة عليه وأبرزها انتهاكاته لحُقوق الإنسان بشكلٍ غير مسبوق، هي مُقدّمة لتغيير الأنظمة في العِراق واليمن والسعوديّة ومِصر والأردن.. وباتَ نتنياهو هو الحاكم للمِنطقة الذي ستدفع له الجزية.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم