عبد الباري عطوان
مُنذ 19 شهرًا ونحنُ نسمع ونقرأ عن مُبادراتٍ أمريكيّة لوقف إطلاق النّار في قطاع غزة لم يتم تنفيذ أي منها، وتُقابل بالرّفض الجُزئي أو الميداني من قِبَل دولة الاحتلال وزعيمها بنيامين نتنياهو.. يتغيّر المبعوثون الأمريكيّون بتغيّر حُكوماتهم، ولكن الذي لا يتغيّر هو حرب الإبادة وتوسيعها، وأهداف نتنياهو في القضاء على جميع أطفال القطاع حرقًا بالصّواريخ في خيامهم، وأمام أعين أهاليهم، هذا إذا لم يُحرَقوا معهم، بهدف إرهابهم، وإجبارهم على إخلاء القطاع كُلِّيًّا، والهجرة إلى سيناء المِصريّة، وهذا ما يُفسّر إقامة مراكز لتوزيع الطّعام في رفح فقط قُرب الحُدود المِصريّة، لتكديس أكثر من مِليونيّ فِلسطيني فيها، لأنّه ليس أمامهم أيّ خِيار آخر، فإمّا النّزوح إلى الجنوب، أو المَوت جُوعًا، وبالأمس فقط استشهد أكثر من 60 طفلًا ليس لسُوء التّغذية، إنّما لانعدامها كُلِّيًّا، فلماذا لم يتحرّك ويتكوف أو ينتفض ترامب رجل السّلام؟
ستيف ويتكوف المبعوث الأمريكي يبيع الوهم لأبناء القطاع وفصائل مُقاومته، والتّضليل والكذب للعالم بأسْرِه، بالادّعاء بأنّه توصّل إلى مُبادرةٍ لوقف إطلاق النّار بشُروطٍ جديدة، قيل إنّ مُفاوضي حركة “حماس” أعلنوا قُبولهم بها، وتنصّ على الإفراج عن 10 أسرى إسرائيليين أحياء و18 جثّة، مُقابل وقف إطلاق النار لمُدّة شهرين، وانسِحاب القوّات الإسرائيليّة من القطاع، تحفّظاتنا هُنا لا تعني مُطلقًا أنّنا نُعارض وقف إطلاق النّار، ولا نُريد الأمن والأمان، بل والبقاء لأهلنا في القطاع أو مَن تبقّى منهم على قيد الحياة، وإنّما تأتي بهدف التّحذير من خدعةٍ جديدة كُبرى، ومُخطّطات تصفوية إسرائيليّة أمريكيّة قاصمة، انطِلاقًا من التّجاربِ السّابقة.
***
لماذا يُقدّم لنا ويتكوف مُبادرة بشُروط جديدة، فهُناك اتّفاق على وقف إطلاق النّار، وبرعايةٍ أمريكيّة جرى التوصّل إليه بعد مُوافقة الطّرفين، وتمّ تنفيذ المرحلة الأُولى منه فقط، أي الإفراج عن عددٍ مِن الأسرى الإسرائيليين، وفور وصولهم إلى ذويهم تنصّل كُلِّيًّا من جميع التِزاماته وواصل حرب الإبادة وبصُورةٍ أقوى وأكثر تصعيدًا ودمويّة، ومصحوبة بحربٍ تجويعيّة، ووقف كامل لكُل المُساعدات الإنسانيّة، وإغلاق جميع المعابر إلّا لمَنْ يُريد الرّحيل من القطاع والسُّقوط في مِصيَدة الإغراءات.
فإذا كانَ الصّهيوني ويتكوف يُريد وقف إطلاق النّار فعلًا، وحقن دماء أطفال غزة، فلماذا يسكت ورئيسه عن حرب الإبادة المُتصاعدة التي تقتل يوميًّا أكثر من مئة شهيد على الأقل مُعظمهم من الأطفال، ولنا في مأساة الدكتورة آلاء النجار التي قتلت الصّواريخ الإسرائيليّة تسعة من أطفالها حرقًا في مأواهم المُتواضع في مدينة خان يونس أحد أبرز الأدلّة، فهؤلاء الذين يتباهون بقتل الأطفال ويعتبرونه هواية ومُتعة ليسُوا بشرًا على الإطلاق ومُستمرّون في مجازرهم.
ويتكوف هذا لم يُقدّم رغيفًا واحدًا لجوعى القطاع مُنذ أن خدع المُقاومة وحصل على أسيره الصّهيوني ألكسندر عيدان، الصّهيوني مُزدوج الجنسيّة، ولم يُقدّم علبة دواء واحدة لعلاج الجرحى في أقل من خمس مُستشفيات بقيت شِبه عاملة بعد تدمير أكثر من 30 مُستشفى عمدًا مِن قِبَل مُسيّرات دولة الاحتلال، فكيف يُمكن أن يكون هُناك سلام وتعايُش مع هؤلاء؟
هذه المُبادرة الأمريكيّة هي مُجرّد حقنة تخدير جديدة مِثل سابقاتها، والهدف هو كسب الوقت، لإعطاء نتنياهو الذي لا يُريد وقف الحرب مُطلقًا، الفُرصة الكاملة لمُواصلة حرب إبادته واستعادة الأسرى بالتّقسيط المُريح ومجّانًا دون مُقابل، مع استِمراره في المجازر، والتّجويع، وصولًا إلى هدفه النّهائي في نزع سلاح فصائل المُقاومة، وإعادة احتلال القطاع، وتهجير جميع أبنائه بالقوّة إلى خارجه.
الهيئة الأمريكيّة- الإسرائيليّة التي جرى فرضها بالقُوّة للقيام بتوزيع المُساعدات الشّحيحة جدًّا، وكبديلٍ لوكالة الأونروا، هذه هيئة هدفها الأوّل هو تنفيذ المُخطّط الإسرائيلي- الأمريكي لتفريغ القطاع، وجميع العاملين في الهيئة من الجواسيس الذين يعملون في خدمة المشروع الصّهيوني، وأحسن أبناء القطاع صُنعًا عندما هجموا عليهم وضربوهم بالأحذية، وأجبروهم على الفرار، فهذا الوعي، وهذا الصّمود، وهذه البُطولات هي التي أفشلت مُعظم خطط نتنياهو، وجعلت سُمعة هذا الكيان العُنصري النّازي دون حضيض الحضيض.
***
مُبادرة ويتكوف المسمومة، مسرحيّة هدفها التّرويج لوقف إطلاق نار لن يحدث، وإنْ حدث لن يُعمّر طويلًا مِثل نظيره الأوّل، وفي مُحاولةٍ ماكرة لوقف الصّواريخ الباليستيّة والمُسيّرات اليمنيّة التي باتت تقصف تل أبيب ومطارها، وتُرسل الملايين من المُستوطنين كُلّ ليلة تقريبًا إلى الملاجئ في حالةٍ من الخوف والهلع، فماذا فعلت الإدارة الأمريكيّة عندما اخترقت دولة الاحتلال وقف إطلاق النّار في لبنان وهي الضّامنة له أكثر من 3500 مرّة؟ واحتلّت قوّاتها مُعظم الشّريط الحُدودي اللبناني، ولن تتوقّف الطّائرات الإسرائيليّة مُطلقًا عن اغتيال قيادات من “حزب الله” رغم التزام الحزب الكامل بالاتّفاق.
نُكتة الموسم القول بأنّ الرئيس دونالد ترامب سيكون الضّامن لاتّفاق ويتكوف القديم المُجَدّد، أو المُعدّل، بما يتوافق مع شُروط نتنياهو المُصطَنعة.. نكتة سمجة بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فهذا الرّجل ابتزّ عرَبنا وحصل على خمسة تريليونات دولار في ساعتين، ودون أنْ يُوقف تصعيد حرب الإبادة وسفك دماء الأطفال في غزة، ساعة واحدة، أو يُقدّم رغيفًا لطفلٍ فِلسطينيّ على حافّة الشّهادة جُوعًا، فالمجازر اتّسعت وارتفع عدد ضحاياها وهو ما زال يجمع التّريليونات في عواصمنا، ودون أن يقول حتّى شُكرًا، ويُؤكّد أنّها حقّه وثمن حمايتهم، فهل سيلجم ترامب “مُعلّمه” نتنياهو الذي قدّم له أكثر من 1800 من القنابل العِملاقة من وزن ألفيّ رطل للإجهاز على كُل منزل ما زال واقفًا ولم يُدمّر، وحرق الآلاف من المُشرّدين في خيامهم أحياء؟
كُلّهم شُركاء ومُلتزمون في تحقيق أمْرين: نهب الأموال العربيّة، وارتكاب المحرقة النازيّة الصّهيونيّة في القطاع، وبضمانةِ ترامب رَجُلُ السّلام.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم