عبد الباري عطوان
هُناك مُصطلحان يتردّدان بقوّةٍ على هامش زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، بدءًا بالمملكة العربيّة السعوديّة ومُرورًا بقطر، وانتهاءً بدولة الإمارات العربيّة المتحدة، وسط ضجّة إعلاميّة مُبالغ فيها، وغير مسبوقة:
الأوّل: وصف الزيارة بأنّها “تاريخيّة”، علمًا بأنّها ليست الأُولى التي يقوم بها ترامب، وهو ليس أوّل رئيس امريكي يزور العاصمة السعوديّة.
الثاني: المُبالغة في وصف تدهور العلاقات بين ترامب وحليفه الاستراتيجي بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال، ولا نعرف أين هذا “التّدهور” بالأسير الذي جرى الإفراج عنه “ألكسندر” إسرائيلي، أكثر منه أمريكي، وليس له أي قيمة سياسيّة أو عسكريّة، مُضافًا إلى ذلك أنّ الاتّصالات بين الرّجلين لم تتوقّف، وزيارة ترامب لتل أبيب لاحقًا شِبه مُؤكّدة، فقادة إسرائيل هُم مَن يحكمون أمريكا وليس العكس.
***
ترامب يزور المِنطقة من أجل “نهب” أكبر كميّة مُمكنة من تريليوناتها لوقف انهيار بلاده الاقتصادي، وتخفيض دينها العام الذي يزيد عن 42 تريليون دولار، ومنطقة الخليج هي الوحيدة التي يُمكن أن تُحقّق له هذا الهدف وليس حُلفاؤه في أوروبا.
“إسرائيل” تأخُذ ولا تُعطي المِليارات لأمريكا، مثلما تأخُذ القاذفات العملاقة، والتّكنولوجيا العسكريّة، والحماية والقذائف من فئة الألفيّ رطل الكفيلة بتدمير قطاع غزة، والضفّة، واليمن، وربّما طِهران وبيروت لاحقًا، ولهذا لم تتضمّن جولته الحاليّة التوقّف فيها تمويهًا.
الزّيارة يُمكن أنْ تكون “تاريخيّة” لو أنّ ترامب أصدر أمْرًا بوقف حرب الإبادة في قطاع غزة فورًا، وهدّد باستخدام القوّة إذا رفض نتنياهو هذا الطّلب، تمامًا مثلما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور عام 1956 أثناء العُدوان الثّلاثي على مِصر، ولكنّنا كأُمّة نُدمن ترديد المُصطلحات الأمريكيّة، والمُبالغة في التّرحيب بالزّعماء الأمريكيين وزياراتهم.
ترامب سيعود حتمًا إلى واشنطن مُحَمَّلًا بالتّريليونات والهدايا والعُقود لشَركاته، ونتنياهو سيعود إلى قطاع غزة بالغزو والاحتلال الشّامل، فور إقلاع الطّائرة الرئاسيّة الأمريكيّة عائدة إلى واشنطن، مُنطبقًا عليها المثل الذي يقول “طارت الطّيور بأرزاقها”، وبقيت حُروب الإبادة الإسرائيليّة على حالها، في غزة والضفّة واليمن ولبنان وسورية بدعمٍ أمريكيٍّ لا محدود.
الرئيس الأمريكي أدرك فشل تهديداته وعُنوانها الأبرز “الصّدمة والرّعب” في الصين وروسيا، مثلما أدرك فشلها في اليمن وإيران، ولهذا تراجع وهرع إلى مائدة المُفاوضات طلبًا لوقفِ حُروبه الحقيقيّة الحاليّة، والافتراضيّة.
الدبلوماسيّة شيء، والخُنوع لإملاءات زعيم السّماسرة وابتزازه شيءٌ آخَر، وليس صحيحًا أنّ العرب لا يستطيعون أنْ يقولوا “لا” لأمريكا، فالمملكة العربيّة السعوديّة قالتها كبيرة عندما أدارت ظهرها لواشنطن، وتوجّهت إلى الصين وروسيا، عندما دعت جو بايدن إلى الرياض وحشدت له كُلّ الزّعماء والقادة العرب في قمّةٍ استثنائيّة، ووقّعت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتّفاق “أوبك بلس” الذي حقّق أكبر إنجاز تاريخي اقتصادي يحفظ الثّروات النفطيّة والغازيّة وقيمتها الحقيقيّة، وأجبرت بايدن على التّراجع وزيارة الرياض زاحفًا وذليلًا.
***
التّريليونات سلاحٌ فتّاك، إذا جرى استخدامها أو توظيفها في خدمة الأُمّة وقضاياها العادلة، أي يجب أنْ تكون مشروطة، وليست مجّانيّة لِمَن لا يستحقّها، وعلينا أن نضع العادات “الحاتميّة” جانبًا، أو إكرام الضّيف لكسْرِ عينه، إظهارًا لمكارم الأخلاق، فالغرب بلا أخلاق، ويفهم لُغة المصالح فقط، ووصل إلى ما وصل إليه لأنّه لا يُقدّم شيئًا دون مُقابل مُتّفق عليه مُسبقًا، فلماذا لا نتعامل معه بالأُسلوبِ نفسه؟
ختامًا، نتمنّى أن لا يعود ترامب بدولارٍ واحد إلى واشنطن إلّا بعد ضمان وقف حرب الإبادة في غزة، والضفّة، ولبنان، واليمن، والتخلّي علنًا عن سياسة التّهجير وتحويل غزة إلى “ريفيرا” الشّرق الأوسط لنادي تجّار العقارات الذي يتزعّمه، والتّطبيق الكامل لحلّ الدولتين الذي تتبنّاه المملكة العربيّة السعوديّة كخُطوةٍ أُولى وفقًا للمُبادرة العربيّة التي صاغت بُنودها، ودون أي رُضوخ لضُغوط التّطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فلا مكان لنجمة داوود في بلاد الحرمين الشريفين.
المصدر: رأي اليوم