شكلت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية الخاصة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، صوتًا مميزًا وعاليًا ندّد بالجرائم الإسرائيلية وبالصمت عنها، ومنددا في الوقت نفسه بأي جريمة حرب ترتكب من أي طرف.
وواجهت ألبانيزي، الإيطالية والمحامية الدولية والأكاديمية، حملات مسعورة من جانب إسرائيل ومؤيديها في العالم، وجهت إليها شتى أنواع الاتهامات، بدءا بمعاداة السامية وصولًا إلى التواطؤ مع الإرهاب، وكان سلاح المقررة الأممية في وجه كل هؤلاء واحدًا: القانون الدولي.
لكن القانون الدولي أصبح اليوم مثار تساؤلات كبيرة، في ظل ما تقول المقررة، الفخورة بقيمها وثقافتها الغربية، إنه انحدار أخلاقي في الغرب على مستوى النظام السياسي، وفيما يخص تبني الولايات المتحدة الأمريكية سياسة خارجية تتعارض مع هذا القانون.
ولا يفوت ألبانيزي، في حوار مع «القدس العربي»، التطرق إلى الوضع في الدول العربية، وتقول إن أقلية منها تصرفت إزاء غزة، مثل جوارح تنظر إلى غنيمة، بينما سعى آخرون إلى حماية الفلسطينيين، معوّلة على قيادة عربية تتمتع ببصيرة وتشكل مثالًا ملهمًا للأجيال في العالم العربي والعالم.
أمور عديدة تطرقت إليها ألبانيزي، في هذا الحوار.
■ دأبت على التكرار والتحذير، لا تطلقوا على ما يجري في غزة تسمية حرب. إنها إبادة جماعية. هل هذا موقف سياسي أم قانوني؟
في الوقت الذي لدي فيه آراء سياسية، فإن هذا ليس ما أعبر عنه في ممارستي ولايتي. وقد كان ذلك نقطة مرجعية وتحت الأضواء لعدة أشهر. لذلك، أنا حذرة جدًا في التمسك الشديد بالحقائق وتوصيفها القانوني عندما أتحدث أو أكتب. وتقييمي بأن هناك أسبابًا معقولة تدفع للاعتقاد بأن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، يستند إلى ما تفعله في غزة منذ أكثر من 16 شهرًا وحتى اليوم. ويمتد هذا إلى أجزاء أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالمادة الثانية من اتفاقية مكافحة جريمة الإبادة الجماعية، تنص على أن الإبادة الجماعية تُرتكب في حال حصول أي من الجرائم التي سأذكرها، ضد مجموعة معينة، بنيّة تدميرها كليًا أو جزئيًا، ويمكن أن تكون هذه المجموعة إثنية، أو وطنية، أو دينية أو عرقية. والفلسطينيون في غزة قد تم تحديدهم من قبل محكمة العدل الدولية كمجموعة معينة. والأفعال التي ارتُكبت ضدهم، وتم توثيقها منذ عام مضى، تشمل القتل، وإلحاق أضرار جسدية وعقلية جسيمة، وخلق ظروف معيشية محسوبة تؤدي إلى التدمير الجسدي للمجموعة ككل.
«سياسة إدارة ترامب الخارجية مخزية وتناهض القانون الدولي»
لقد تم ارتكاب ذلك بهدف الإبادة الجماعية. والإبادة الجماعية تحتاج إلى توفر نية خاصة. لذلك، خلف كل واحدة من هذه الجرائم، يجب أن تكون هناك نية لتدمير المجموعة ككل، وليس مجرد تفكير عقلي أو سبب يدفع فردًا أو دولة لتدمير شعب ما. قد تكون هناك العديد من الدوافع، سواء بسبب تحرير الرهائن أو بسبب تدمير «حماس»، أو أي سبب آخر، مثل استغلال هذه الفرصة لتطهير فلسطين عرقيًا، إلا أن الدوافع ليست ذات صلة. ما يهم هو النية، وهي التدمير، التدمير الجسدي لمجموعة بأكملها. والسبب الذي يجعلني أقول ذلك الآن هو أنني أتفق مع المؤرخ الإسرائيلي راز سيغال، الذي قال في أكتوبر 2023 إن فلسطين وما يحدث في غزة هو مثال نموذجي على الإبادة الجماعية. إنه محق لأن هذا هو ما يمكن أن يؤدي إليه الاستعمار الاستيطاني، أي تدمير السكان الأصليين، الذين، بمجرد إزالتهم من الأرض، سيواجهون بالضرورة الدمار، لأن الأرض بالنسبة للشعوب الأصلية ليست مجرد مكان للعيش، بل هي جزء من هويتهم. ولهذا السبب، فإن التطهير العرقي الذي ترتكبه إسرائيل بشكل واضح هو النتيجة التي تؤدي إليها الإبادة الجماعية، إلى جانب جرائم أخرى.
الدول الغربية تأخذ اتهامات الإبادة على محمل الجد لكنها تحاول تجاهلها والتهرب من مترتباتها
■ لكن يبدو لي أن الدول الغربية بشكل خاص لا تأخذ الاتهامات بشأن الإبادة الجماعية على محمل الجدّ؟
إنهم يأخذونها على محمل الجد. ولهذا السبب لا يريدون التعامل معها. لأنه إذا كان عليهم ذلك، فسيتعين عليهم مواجهة العواقب، والتداعيات المترتبة على مصطلح الإبادة الجماعية. وبدلًا من ذلك، يفضلون التظاهر بأن هذا لم يكن الحال. ولكن كما تعلم، فهذا نفاق كبير وقصر نظر شديد، لأن محكمة العدل الدولية قالت ذلك قبلي، وقبل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وقبل اللجنة الخاصة بالممارسات الإسرائيلية، وقبل العلماء الفلسطينيين، والعلماء الإسرائيليين.. وكلهم خلصوا إلى أن إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية في غزة. وفي كانون الثاني يناير 2024، خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن هناك احتمالًا معقولًا لارتكاب أفعال إبادة جماعية. وتترتب على هذا مسؤوليات على الدول الأعضاء فيها. وحقيقة أنهم تظاهروا بأن هذه التدابير ليست ملزمة لهم، تُظهر فقط هشاشة وضعف النظام الدولي، عندما لا تلتزم الدول الأعضاء بالقوانين الأساسية التي اتفقت عليها. وهكذا، لم تُمنع إبادة جماعية أخرى، ولم توقف، ونحن نواجه العواقب. وأولًا وقبل كل شيء، يواجه الفلسطينيون ذلك وهم الذين تعرضوا للاضطهاد الكامل من قبل الدولة، ولن أقول «الشعوب». فكثير من الناس، بخاصة في الغرب، قد واجهوا عواقب بسبب موقفهم المتضامن مع الفلسطينيين، بمن فيهم الإسرائيليون الذين غادروا إسرائيل بسبب سياساتها القائمة على الفصل العنصري، وكذلك اليهود الذين لا يرغبون في أن تُرتكب هذه الأفعال باسمهم. ولذلك، أود أن أقول إن الفلسطينيين قد تخلت عنهم القيادات السياسية. والآن، نحن بحاجة إلى تحدي هذا النظام. أنا كشخص، لا أشعر بالأمان في نظام يختار القواعد التي يريد تطبيقها، ومتى يجب أن تُطبق، سواء على الأعداء أو على الأصدقاء. أريد أن أعيش في نظام تكون فيه القواعد شاملة وتُطبق عالميًا
ترامب والدول العربية
■هل كانت دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تهجير سكان غزة والاستيلاء عليها وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق الأوسط» أمرًا قابلًا للتصديق يصدر عن أعرق دولة ديمقراطية غربية كما يقولون؟
لست متفاجئة تمامًا. انظر إلى الأوامر التنفيذية المختلفة التي مُرّرت في انتهاك صارخ لكل من القانون الدولي، وعلى ما يبدو للقانون الفيدرالي. كنت أقرأ أن عددًا من المحاكم قد لاحظ بالفعل عدم قانونية بعض هذه الأوامر التنفيذية. نحن نواجه إدارة أمريكية ليست مهتمة بشكل خاص بالقانون الدولي. وعندما يتعلق الأمر بفلسطين، فهو أمر مروّع للغاية، ولا يصدق، أن نرى أن التهجير القسري، والعدوان، والاحتلال غير القانوني، والتطهير العرقي، وهي ثلاث من أصل أربع جرائم دولية، قد أصبحت جزءًا من السياسة الخارجية الرسمية للولايات المتحدة.
هذا أمر مخزٍ وغير قانوني. يجب أن يكون هناك رد فعل من المجتمع الدولي بأسره. والولايات المتحدة وإسرائيل، الوحيدتان اللتان لديهما شيء لتكسباه من هذا الوضع غير القانوني. أما بالنسبة للفلسطينيين، فأنا قلقة للغاية من أن الدول، حتى الدول الأعضاء التي تعلن نفسها صديقة للشعب الفلسطيني، لا تتخذ موقفًا قويًا في الدفاع عن تطبيق القانون الدولي، بما في ذلك دول في المنطقة العربية، وهذا ما يقلقني بشدة. فهي لا تتخذ موقفًا حاسمًا في الدفاع عن القانون الدولي. والسؤال هنا، على سبيل المثال، لماذا تتم مناقشة مستقبل غزة أو مستقبلها بشكل منفصل عن مستقبل الشعب الفلسطيني أو الدولة الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير؟
أقلية من الدول العربية رأت في غزة غنيمة وأراهن على بصيرة القيادات العربية
ثانيًا، لماذا لا يتحدث أحد عن التعويضات، وهو أول شيء يجب أن يُطرح؟ الولايات المتحدة وألمانيا هما البلدان اللذان قدما معظم الأسلحة والدعم السياسي والمالي لإسرائيل على مدار الستة عشر شهرًا الماضية، وتجب محاسبتهما. لذا، يجب إيجاد آلية لمراجعة ما حدث. ولا أتوقع أن يبذل الغرب جهدًا في هذا المسعى، لأن الغرب يغرق في انحداره الأخلاقي. وأقول ذلك بوصفي غربيّة. لذلك يؤلمني الأمر بشدة، لأنني أعرف الغرب، وأنا فخورة جدًا بثقافتي، وفخورة جدًا بالعديد من القيم التي نحملها، ولكن ليس على حساب الآخرين، وليس على حساب الماضي، الماضي الاستعماري، والانتهاكات التي ارتكبناها ضد شعوب أخرى. كأوروبية، أريد أن يكون الحاضر فرصة لمستقبل أكثر مساواة وعدالة، حيث يمكن للناس أن ينظروا إلى بعضهم البعض ويعملوا معًا كشركاء حقيقيين دون استعلاء، وبروحية من الاعتراف المتبادل والحقيقي بين الدول. هنا أيضًا، عندما يتعلق الأمر بالمنطقة العربية، سأميز بين الشعوب والقادة، فهناك العديد من الدبلوماسيين العرب كانت لدي تفاعلات إيجابية استثنائية مع العديد منهم. لذلك، بينما هناك دول، وهي الأقلية في رأيي في المنطقة العربية، تتصرف مثل الجوارح، وتنظر إلى الغنائم، إلى كيفية الاستفادة من مآسي الفلسطينيين ومن دمار غزة، وهذا أمر مقزز بالنسبة لي، إلا أنها ليست الأغلبية. أعتقد أن غالبية الدول العربية لديها مصلحة اليوم، كما أنها ترى المخاطر في عدم حماية الفلسطينيين. ما يحدث، وهذا رأيي المتواضع المستند إلى معرفتي بالمنطقة العربية، هو أن هناك الكثير مما يجري على المستوى الدولي يسبب زعزعة كبيرة. والولايات المتحدة كانت جزءًا من هذا، أي الإمبريالية الأمريكية. علينا أن نكون صادقين. فلقد تمكنت الولايات المتحدة، بدعم أوروبي، من إضعاف المنطقة العربية. أعني الحرب في العراق، ثم ما حدث في ليبيا.. وما حدث في سوريا. بالطبع، لم تكن الولايات المتحدة هي التي أشعلت الوضع في سوريا. ومع ذلك، فإن العراق يمثل رمزًا.
هذه هي بداية نهاية لقوة عربية كان يمكن أن تكون اليوم قوة رائدة. فقد شهدت المنطقة خلال العشرين عامًا الماضية تحولات جوهرية، مما جعلنا ندرك عمق التبعية الاقتصادية والمالية، وكذلك الانقياد السياسي. ولكن أملي الحقيقي يكمن في أن يكون القادة العرب أكثر تحليًا بالبصيرة من نظرائهم في الغرب، لأن هناك حركة شبابية تتشكل، وأبناء المنطقة العربية يرون نظراءهم في أوروبا والولايات المتحدة، سواء كانوا مسلمين، أو مسيحيين، او يهودًا، أو حتى ممن لا ينتمون إلى أي خلفية دينية، وجميعهم يرفعون صوتهم مطالبين بالعدالة لفلسطين.
وما نحتاجه ليس مجرد قادة يتمتعون برؤية مستقبلية، بل نحتاج قادة حقيقيين. وهذه لحظة مفصلية تمثل فرصة للقادة العرب الآخرين، وبينهم من تعرض لانتقادات شديدة بشأن موقفهم من القضية الفلسطينية. إلا أنني أرى أن قادة سعوا لحماية الفلسطينيين. وآمل بشدة أن يصبح صوتهم أكثر وضوحًا وحزمًا في هذا السياق.
ما أقصده هو أننا بحاجة إلى من يُعلن بوضوح، إلى قادة عرب، يقولون بجرأة إن المنطقة، وعلى وجه الخصوص دول الخليج، لا يمكن أن تُعامل وكأنها ماكينة صراف آلي للعالم، أو تُستنزف دون اعتبار لحقوقها ودورها الاستراتيجي.
وأن هناك مبادئ وأفكارًا وقيادة تتجاوز البعد المالي للمنطقة. سيكون هذا أمرًا رائعًا، وأنا على ثقة بأن القيادة الجديدة في بعض هذه الدول العربية ستبرز بوضوح أكبر، وستكون قيادة ملهمة للكثيرين في هذا العالم المعولم.
■ هذا بالنسبة للدول العربية.. إذا أردت ان أعود وأسأل عن الموقف الواجب من الدول الغربية والأوروبية بشكل خاص.. كيف تقيمين هذا الموقف؟
حتى الآن، كان الموقف متواضعًا، إذ انتقدت بعض الدول الأعضاء العقوبات المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية من جانب الولايات المتحدة، حيث بلغ عدد الدول التي أبدت ردود فعل حيالها نحو 80 دولة، بما في ذلك معظم الدول الغربية. لذا، أرى أن أوروبا تبدو تائهة بعض الشيء، وهذا ليس مفاجئًا، لكنه يجب أن يُفهم في سياقه.
لقد كنت أستمع إلى رئيسة المفوضية الأوروبية قبل هذه المقابلة مباشرة، حيث قالت: «نحن نعيش لحظة خطيرة للغاية، وعلينا زيادة الإنفاق العسكري». لا، لسنا بحاجة إلى إنفاق المزيد من الأموال على التسلح. السلام هو ما يُبنى بالاستثمار، وليس من خلال الحروب. لا يوجد منتصر في النزاعات المسلحة، ولا أحد يريد حربًا دائمة، لا أحد. لا بوجد «أعداء» بالمطلق في العالم، فالأعداء الحقيقيون كانوا دومًا قريبين منا، ونحن ندرك ذلك جيدًا. والآن، حان الوقت للقطيعة مع الماضي، لأن البشرية ليس لديها ما تكسبه من استمرار هذا النهج.
فالمواطنون العالميون، والمواطنون الأوروبيون وغيرهم، ليس لديهم ما يكسبونه من ذلك. نحن بحاجة إلى المزيد من الحقوق، وليس إلى تقليصها، او إلى مزيد من الأسلحة. ولهذا السبب، نحن بحاجة حقيقية للتفكير بعمق ومساءلة القيادة في أوروبا أيضًا.
الضفة الغربية
■ بالانتقال إلى الحديث عن الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، هل تخشين على مستقبلهما في ضوء كل ما يحدث من توسع الهجوم الإسرائيلي في شمال الضفة خصوصًا والاستيطان؟
أنا أخشى على حاضر الضفة الغربية بشدة، لأنه خلال بضعة أسابيع فقط، دًمرت أحياء بأكملها، ومدن، ومخيمات لاجئين. لقد تم تهجير 40 ألف شخص قسرًا. 40 ألف فلسطيني، بمن فيهم آلاف الأطفال، أصبحوا بلا مأوى. لقد كثّفت إسرائيل هجماتها على الفلسطينيين، ولا يمكن النظر إلى ذلك بمعزل عن باقي الأحداث. يجب علينا إزالة هذه التجزئة المفروضة على الشعب الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. علينا أن ننظر إلى ما تفعله إسرائيل بكامل الشعب الفلسطيني، وعلى كامل الأرض التي تدّعي إسرائيل أنها ملكها بموجب «إرادة إلهية»، أو بدعوى أن الشعب اليهودي له صلة توراتية بفلسطين.
بالطبع، لا أحد ينكر أن للشعب اليهودي صلة توراتية بالخليل أو نابلس أو القدس. حسنًا! ولكن هذا الارتباط الديني لا يمنح أي شخص، بمن فيهم اليهود الإسرائيليون، الحق في تهجير الشعب الفلسطيني قسرًا. هذا هو جوهر القضية. وعلاوة على ذلك، فإن كل هذا يحدث لأن إسرائيل، كما كانت في أعوام 1947 – 1949، وفي عام 1967، لطالما مثّلت العنف والتهجير وسلب الفلسطينيين لأراضيهم.
وهذا يحصل منذ وصول الصهيونية، الصهيونية السياسية، التي لم تكن مرغوبة من قبل غالبية الشعب اليهودي، بما في ذلك في المنطقة العربية، يجب أن نتذكر ذلك. لكنها تسبب بعواقب خطيرة وكارثية، حتى بالنسبة لليهود العرب. ولكن في عام 1947، بلغ العنف ذروته وترجم إلى أول تهجير قسري لـ 750 ألف فلسطيني، مع تدمير ما يقرب من 500 قرية، والاستيلاء على المدن والممتلكات. ومنذ ذلك الحين، استمر التهجير القسري في الجليل والنقب، وأكثر من ذلك، في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أخشى على حاضر الضفة الغربية بشدة، ويجب عدم تجزئتها عن القدس الشرقية وغزة
أما غزة، فقد كانت – كما يقول البروفيسور الإسرائيلي إيال وايزمان – عبارة عن حصار، وكانت بمثابة غيتو استيطاني استعماري منذ أعوام 1947-1949. إذن، لم يبدأ الحصار على الفلسطينيين في غزة فجأة، لا في الأمس القريب، ولا حتى في أكتوبر 2023. العنف كان دائمًا موجودًا. وبعد أعوام 1947-1949، وبعد عام 1967، حصلت موجات ضخمة من الدمار والتهجير الجماعي، بحيث لم يتمكن أي فلسطيني من العودة.
والآن يتكرر المشهد نفسه. فمنذ عام 2023، اغتنمت إسرائيل الفرصة للمضي قدمًا في خطتها الرامية إلى تهجير الفلسطينيين بشكل أوسع، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة أو في القدس الشرقية، وربما تمتد هذه السياسة أكثر يومًا ما.
لذا، سبب قلقي بشأن الوضع الحالي في الضفة الغربية هو أن إسرائيل قد ارتكبت بالفعل إبادة جماعية في غزة، وستستمر العواقب في التفاقم. لأنك ترى، الفلسطينيون في لا يزالون يُقتلون برصاص القناصة. إسرائيل لا تريد إنهاء سيطرتها على ممر فيلادلفي. وهي تمنع دخول المساعدات. لم تدخل أي وحدات طبية متنقلة إلى قطاع غزة، والأطفال يموتون من البرد. 18 ألف طفل قُتلوا!
عندما أقول هذا، أسأل نفسي: أي من الوحوش أصبحناها؟ كيف لا نتعاطف مع مذبحة راح ضحيتها 18 ألف طفل؟ والآن، لم يعد على إسرائيل أن تستمر في قصف المنشآت في غزة، مع أنه برأيي قد تستأنف ذلك. لأن خوفي الحقيقي هو أن هذه هي العقلية التي تحكم إسرائيل.
الإعلام الغربي
■ لقد واجهت موقفًا اخيرًا خلال ندوة شاركت فيها في ألمانيا.. هل تخشين على حرية التعبير في الغرب عندما يتعلق الأمر بفلسطين؟
أنا قلقة جدًا بشأن دور وسائل الإعلام خلال الإبادة الجماعية الأخيرة.
ليس لأن تورط وسائل الإعلام في ارتكاب الجرائم، بما في ذلك الإبادة الجماعية، أمر غير متوقع. هناك سوابق قانونية تشير، على سبيل المثال، إلى الدور الإشكالي والمتواطئ الذي لعبته وسائل الإعلام في كل من رواندا ويوغوسلافيا السابقة، سواء في التغطية على الجرائم أو في خلق بيئة مواتية لها.
ما أجده صادمًا ومنفرًا بشكل خاص في هذه الحالة هو أن شركات الإعلام الغربية الكبرى كانت متورطة بشكل هائل في سيل من الأكاذيب والافتراءات، مثل قصة الأطفال الـ 42 الذين قُطعت رؤوسهم، أو جرائم الاغتصاب الجماعي التي زُعم وقوعها في 7 أكتوبر. كل هذه الادعاءات تم دحضها وثبت أنها خاطئة، ومع ذلك، بعد شهور وسنوات، لا تزال مستمرة في التداول والاستخدام.
لأن هذه الادعاءات استُخدمت لتأكيد الفكرة القائلة بأن جميع الفلسطينيين ينتمون إلى «حماس». هذه أيضًا مشكلة أخرى، حيث يتم تصوير كل الفلسطينيين على أنهم جزء من «حماس». لقد سُئلت في الغرب: «هل يمكنك أن تضمني لنا أن كل الفلسطينيين ليسوا من حماس؟» لا، هذه ليست مسؤوليتي، وليست مشكلتكم أيضًا. انظروا إلى السياسيين الذين لديكم في أوروبا، انظروا إلى السياسيين الذين انتخبهم الإسرائيليون. على عكس الفلسطينيين، الذين لم يُجروا انتخابات منذ عقدين، فإن القادة الإسرائيليين يتم انتخابهم بانتظام.
هؤلاء القادة الإسرائيليون العنصريون للغاية، أمثال بن غفير وسموتريتش. تم انتخابهم مؤخرًا. هناك قادة إسرائيليون مطلوبون بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي مواجهة ذلك، أقول: من أنتم لتنتقدوا الفلسطينيين؟
بالطبع، يجب أن يتحمل الفلسطينيون المسؤولية. يجب محاسبة أي شخص قتل أو أساء معاملة الإسرائيليين، ولكن ليس تحميل المسؤولية للشعب بأسره. في نهاية المطاف، يتلخص الأمر في ترسيخ هذا التوجه العنصري أو – كما كان سيصفه إدوارد سعيد – هذا النهج الاستشراقي تجاه الفلسطينيين، حيث يُفترض أنهم مذنبون حتى تثبت براءتهم، أو يُصنفون فقط كضحايا. لا يُسمح بالحديث عن الفلسطينيين إلا كضحايا.
وعلاوة على ذلك، إلى جانب التلاعب بالأخبار وتزوير الحقائق أو عدم الإبلاغ عن الحقائق الحقيقية، هناك عنصر ثالث يتمثل في التماهي الكامل والامتثال المطلق للسردية العسكرية الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، في وسائل الإعلام الغربية، يتم استضافة القادة العسكريين الإسرائيليين يوميًا وباستمرار.
لنتخيل مقارنة بسيطة، كأن تتم استضافة جنرالات روس للحديث عن إدارة العمليات الحربية، هذا في حال أردنا التفكير في نزاع معين – وهذا ليس نزاعًا – دون أي مساءلة، ودون حتى طرح أي أسئلة حول شرعية الهجوم الذي شنّته إسرائيل على غزة، بل ودون حتى الإشارة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل 7 أكتوبر.
العديد من اليهود قطعوا صلاتهم العائلية، وفقدوا وظائفهم، وغادروا إسرائيل رفضا لما يجري وهذا هو جوهر اليهودية
مرة أخرى، نشر الأكاذيب، وتضخيمها، وعدم الحديث عن الحقائق، وأخيرًا وليس آخرًا، حرمان الأصوات الفلسطينية من المساحة اللازمة، وكذلك الأصوات الإسرائيلية المعارضة للاحتلال والفصل العنصري والإبادة الجماعية. بالإضافة إلى ذلك، لم يُمنح أي مجال للأصوات المستقلة، مثل منظمة العفو الدولية أو المقررين الخاصين.
لقد تم الاستماع إلينا بشكل أساسي عبر وسائل الإعلام العربية، والإعلام الأفريقي، والآسيوي، وإلى حد ما في بعض وسائل الإعلام المستقلة في الغرب، ولكن الإعلام التجاري المسيطر تجاهلنا بشكل شبه كامل.
■ يبدو أنك خائفة على مستقبل فلسطين؟
مواطني، (الإيطالي) أنطونيو غرامشي، الذي يُقرأ على نطاق واسع من قبل الفلسطينيين وغيرهم في المنطقة، هو الذي قال: «لديّ تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة».
أنا أدرك أن الوضع قاتم، وأعلم ذلك جيدًا، ولكن بطريقة ما، هزّت فلسطين الأرض بعمق لدرجة أن الأقنعة قد سقطت. لم يكن الأمر أننا لم نكن نعلم أن القادة الأوروبيين أو الغربيين عمومًا، أو الولايات المتحدة، كانوا مؤيدين لإسرائيل بشكل واضح. كنا نعرف ذلك، لأن إسرائيل ازدهرت بفضل الحصانة التي مُنحت لها على مدى 75 عامًا. لم تُحاسب إسرائيل أبدًا، ولم تحترم أي قرار، أو ربما احترمت قرارًا واحدًا فقط من قرارات الأمم المتحدة. حتى قرارات مجلس الأمن تم انتهاكها جميعًا، دون أن تواجه إسرائيل أي عواقب، سواء عبر فرض عقوبات، أو سحب الاستثمارات، أو المحاسبة القضائية.
الآن، هذا يتغير. لم يسبق أن تحدث الناس بهذا الوضوح عن الجرائم التي يواجهها الفلسطينيون، ليس فقط في فلسطين، بل في الخارج أيضًا، فقط بسبب كونهم فلسطينيين. الأمر واضح تمامًا. ما أريد قوله هو أن العالم يتغير.
وعندما أرى الفلسطينيين، ورغم كل الفظائع وكل الصدمات التي تعرضوا لها، أراهم ينهضون مجددًا – ولا أقول هذا من باب الرومانسية – لكنهم يستمرون في إعادة بناء حياتهم ورؤية المستقبل. إذا لم يفقدوا الأمل، فمن نكون نحن، الجالسون في منازلنا المريحة، لنفقد الأمل؟
وإذا كان هناك العديد من اليهود الذين يقطعون علاقاتهم العائلية، ويفقدون وظائفهم، ويتخلون عن امتيازاتهم لأنهم يرفضون الصمت، ولأن هذا هو جوهر اليهودية، كما يقول العديد من الرفاق اليهود. إنها تعني الوقوف مع الضحايا، والفلسطينيون هم الضحايا.
إذا كان الشباب يواجهون خطر انقطاع دراستهم، وسحب منحهم الدراسية، واعتقالهم واحتجازهم، وإذا كان العلماء والصحافيون وغيرهم يعانون بسبب موقفهم، فهذه بالنسبة لي شقوق في الجدار. وعندما تظهر هذه الشقوق، فهذا يعني أن الضوء بدأ يمر من خلالها، وأن هذه الشقوق أصبحت كبيرة.
أعلم أن الطريق سيكون صعبًا، لكن علينا أن نبني على الإيجابيات، وأن نواصل توحيد الجهود، ونتأكد من أن القادة يقفون مع الشعوب، ويعارضون هذا النظام، ويدفعون نحو تغيير حقيقي.
إذا كان إحساسي صحيحًا، فهذه ستكون لحظة ثورية. كما كان الحال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكما كان الحال بعد الهولوكوست، حيث أدت تلك الأحداث إلى تطورات كبيرة كان ينبغي أن تقودنا إلى مكان أفضل، وقد فعلت ذلك إلى حد ما. رغم أن النظام لم يكن في صالح الجميع، إلا أن شعوب الغرب قد استفادت منه.
لهذا السبب أقول، بسبب امتيازاتنا، يجب على الكثير منا أن يدرك أن كل شيء على المحك. نحن أيضًا في لحظة يتم فيها الكشف عن الماضي. لم يسبق لنا أن تأملنا في الجذور الاستعمارية لهذا النظام كما نفعل الآن. لم يسبق أن تحدثنا عن التحرر من الوضع الاستعماري بهذه الجدية.
ما أقوله هو: من فضلكم، من فضلكم، دعونا نتأكد من أن تضحيات الفلسطينيين وغيرهم ممن فقدوا حياتهم لم تذهب سدى. دعونا نجعل هذا النظام تحويليًا. ولكن لكي يحدث ذلك، نحن بحاجة إلى بوصلة.
بالنسبة لي، البوصلة هي القانون الدولي، فهو أداة محايدة، لكن إذا كان في أيدي من يتحلى بالنزاهة والمبادئ الأخلاقية، فسوف يقودنا إلى مستقبل أفضل. سوف يخرجنا من هذا الجنون.
وحل القضية الفلسطينية بما يتماشى مع القانون الدولي يعني شيئًا بسيطًا للغاية، وهو نهاية الإبادة الجماعية اليوم، نهاية الاحتلال، لأن الديكتاتورية العسكرية المستمرة منذ 75 عامًا أمر غير مقبول. ثم إنهاء الفصل العنصري، وجعل الجميع أحرارًا بين النهر والبحر.
إذا كان الفلسطينيون والإسرائيليون موافقين على حل الدولتين، فهذا جيد، بل رائع، لكن يجب أن يكون حل الدولتين نقطة انطلاق، وليس شيئًا يستمر التفاوض عليه إلى ما لا نهاية.
لا يمكن تحقيق حل الدولتين إذا استمرت إسرائيل في التطهير العرقي لما تبقى من أرض فلسطين.
■ شكرًا لكِ على وقتك، سيدتي.
هل يمكنني قول شيء آخر؟
■ بكل سرور
رمضان كريم لكل من يحييه.
المصدر: القدس العربي
ألبانيزي في حوار مع «القدس العربي»: فلسطين هزّت الأرض وأسقطت الأقنعة… وشقوق في الجدار تعني ظهور ضوء