لم يتوقف الإعلام المؤيد لإسرائيل في بريطانيا عن مهاجمة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لبثها فيلما عن معاناة غزة من خلال عيون أطفالها.
ومع أن بي بي سي سحبت الفيلم من خدمتها الفورية على الإنترنت، بعد الزعم أن الراوي الرئيسي، عبدالله، هو نجل نائب وزير في حكومة غزة التي تسيطر عليها حماس، إلا أن التقارير لم تتوقف عن مهاجمة ما قالت إنه تحيز بي بي سي ضد إسرائيل. وقالت الصحيفة اليمينية “ديلي تلغراف” إن القناة البريطانية لم تتحيز ضد إسرائيل فقط، بل وصلت إلى أعلى درجات الشر والخزي. وزعمت صحيفة “ديلي ميل” أيضا أن بي بي سي أنفقت 400,000 جنيه على إنتاج الفيلم.
ولكن رئيس مجلس التفاهم البريطاني- العربي (كابو) كريس دويل، اعتبر قرار بي بي سي سحب الفيلم أنه صورة عن عدم قدرتها على الوقوف أمام إسرائيل. وقارن مواقف بي بي سي المتمسكة بخطها الإنتاجي ومواقفها في برامج وثائقية وتصرفها تجاه فيلم غزة.
وفي مقال نشره موقع “ميدل إيست آي”، قال إن بي بي سي بثت في عام 2003 فيلما وثائقيا عن البرنامج النووي الإسرائيلي “أسلحة إسرائيل السرية”، بشكل أغضب قادة إسرائيل وقرروا منع المسؤولين من الظهور في برامج ولقاءات القناة البريطانية.
وقد جاء ذلك الفيلم في وقته، وأحرج إسرائيل، كاشفا عن ترسانتها النووية، في وقت شنت الولايات المتحدة غزوا ضد العراق الذي لم يكن لديه أسلحة دمار شامل.
وسأل دويل في حينه مسؤولا في بي بي سي عن وضع العلاقة مع إسرائيل، فأجاب: “بالنسبة لدولة تريد التأثير على التغطية الإخبارية، فإن مقاطعتنا هي طريقة غريبة لعمل هذا”، ولم تبد الهيئة أي انزعاج من التصرفات الإسرائيلية ولم تستسلم، وفي النهاية اضطرت إسرائيل للتخلي عن المقاطعة.
وبعد أكثر من عقدين من الزمان، فقدت بي بي سي ثقتها بنفسها وثباتها فيما يتعلق بإسرائيل، حيث استسلمت للضغوط الإسرائيلية وسحبت فيلم “غزة.. كيف تنجو في محور حرب”، وبررت القرار بأنها تريد القيام “بتدقيق ضروري” قبل أن تسمح بعرضه مرة أخرى.
كان الفيلم جهد تسعة أشهر من متابعة غزة تحت الحصار ومن خلال عيون أطفال فلسطينيين. وكان الاتهام الرئيسي للفيلم موجه إلى عبد الله، بأنه نجل الوزير أيمن اليازوري، نائب وزير الزراعة في حكومة غزة التي تديرها حماس. وقامت بي بي سي بتعديل في الفيلم واعترفت بهذا، لكنها واجهت اتهامات أخرى دفعتها لسحب الفيلم من المشاهدة على خدمة الإنترنت الفورية.
وقال دويل إن الضغوط كانت ضخمة ويبدو أنها منسقة، فقد قرر الرعاع المعادون لفلسطين استهداف الرسول وليس الرسالة.
وكشف كل مَن انتقدوا هذا الفيلم الوثائقي تقريبا، أنهم لا يهتمون كثيرا بحياة الفلسطينيين وحقوقهم. وكان العديد منهم من المشجعين على الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، بمن فيهم السفيرة الإسرائيلية، وهي ممثلة دولة منعت قناة الجزيرة من البث في إسرائيل والضفة الغربية، إضافة إلى أن إسرائيل مسؤولة عن مقتل ما لا يقل عن 170 صحافيا وعاملا في الإعلام منذ بدء حرب غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ومن الصعب أن تجد دعاية أسخف من السفيرة تيسفي حوتوفلي التي زعمت أن غزة لم تشهد أزمة إنسانية في حين ظلت غزة تحت الحصار لسنوات عديدة، وليس فقط خلال الـ500 يوم الماضية. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل كم عدد الذين شاهدوا الفيلم الوثائقي قبل سحبه. فهو بعيد كل البعد عن كونه أداة دعائية لأي طرف، ولم يكن مؤيدا لحماس أو معاديا لإسرائيل بأي حال من الأحوال، إلا إذا كنت من أولئك الذين يعتقدون أن إضفاء الصفة الإنسانية على الأطفال الفلسطينيين يشكل جريمة. ولم يكن الفيلم سياسيا على الإطلاق.
ومنذ بداية الفيلم، ظهرت الانتقادات الفلسطينية لحماس. ففي الدقائق الأولى، صاحت امرأة فلسطينية: “لعنة الله عليك [يحيى] السنوار”، في إشارة إلى زعيم حماس الراحل. وصاح رجل فلسطيني: “لقد قتلوا أطفالنا، وقتلوا نساءنا، بينما يختبئ السنوار تحت الأرض”. وتذكرت امرأة فلسطينية أخرى كيف احتفل الناس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لكنها اعترفت: “لو كنا نعلم أن هذا سيحدث لنا، لما احتفل أحد”.
وألقى زكريا البالغ من العمر 11 عاما وهو أحد أبطال الفيلم، باللوم على حماس: “لقد تسببوا في كل هذا البؤس”.
ورأى دويل أن الفيلم الوثائقي كان في مصافي الأفلام التي ترشح للجوائز، وهو ما انعكس في المراجعات الممتازة في صحيفة “الغارديان”، التي منحته خمس نجوم، ووصفته صحيفة “التايمز” بأنه “استثنائي”. وحتى صحيفة التلغراف أعطته أربع نجوم. وعليه، يجب أن يكون الفيلم محل فخر وجوهرة تاج في الأعمال الوثائقية لبي بي سي.
ويقول دويل، إن عبدالله (13 عاما) كان فردا يتحدث بطلاقة ويقدم رؤيته الخاصة، وتجربته اليومية وشهاداته مشروعة، ويجب أن لا تُربط بوالده أيا كان. وحتى والده، فلم يكن كما صُور بالإرهابي والقيادي في حماس، بل كان من التكنوقراط في غزة ونائبا لوزير الزراعة وليس من الصف الأول في قيادة حماس العسكرية أو السياسية.
ويتساءل المرء عما إذا كانت بي بي سي قد تواصلت مع الأطفال على الإطلاق. فقد ظنوا أن قصتهم سوف تذاع على الهواء مباشرة. ولكنهم يتساءلون الآن بدلا من ذلك فيما إن أخطأوا في القرار بالمشاركة، ولماذا أصبحوا ضحايا لهجوم شرس.
ولا بد وأن نطرح أسئلة جدية حول سبب تدخل الحكومة البريطانية. فقد تدخلت وزيرة الثقافة ليزا ناندي، وصرحت بأنها سوف تناقش الفيلم الوثائقي مع رؤساء بي بي سي.
ويشير الموقع إلى أن هذا من شأنه أن يعرض استقلال هيئة الإذاعة البريطانية للخطر، ويحمل في طياته تلميحا إلى تدخل الحكومة في وسائل الإعلام. وكان ينبغي لناندي أن تترك هذا الأمر لإدارة بي بي سي لتراجعه. فهو يكشف عن مدى ارتباط حكومة حزب العمال بإسرائيل. ونظرا لتواطؤ الحكومة في جرائم الحرب الإسرائيلية، فإن هذا يعني وجود تضارب في المصالح.
ولكن كيف ستستجيب بي بي سي؟ ينبغي لها أن ترفض أي تدخل من هذا القبيل من جانب الحكومة البريطانية والسفيرة الإسرائيلية. ويرى دويل أنها لن تفعل هذا بالتأكيد، لأن تغطيتها للإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة على مدى الأشهر الستة عشر الماضية كانت بائسة.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وقّع أكثر من مئة موظف في بي بي سي، منهم إعلاميون بارزون، على رسالة موجهة إلى قيادة المؤسسة تنتقد التغطية، وجاء فيها: “لقد كانت المبادئ الصحافية الأساسية مفقودة عندما يتعلق الأمر بمحاسبة إسرائيل على أفعالها”. ويشير دويل إلى معاملة بي بي سي لضيوفها، وبخاصة لو ذكر أي منهم “إبادة جماعية” في المقابلة، حيث يسارع المذيع لترديد الموقف الإسرائيلي: “أنت تعرف ما سأقول وهو أن إسرائيل تنكر ذلك”.
وفي بيان لها، قالت بي بي سي: “منذ بث فيلمنا الوثائقي عن غزة، أصبحت بي بي سي على علم بالروابط العائلية لراوي الفيلم، وهو طفل يدعى عبد الله. لقد وعدنا جمهورنا بأعلى معايير الشفافية، لذا فمن الصواب أن نضيف بعض التفاصيل الإضافية إلى الفيلم قبل إعادة بثه نتيجة لهذه المعلومات الجديدة. نعتذر عن حذف هذه التفاصيل من الفيلم الأصلي”. وأضافت: “الفيلم لا يزال رؤية قوية من خلال عين الطفل عن التداعيات الكارثية للحرب في غزة ونعتقد أنه شهادة ثمينة لتجاربهم. ويجب علينا الوفاء بالتزاماتنا من ناحية الشفافية”.
ويدعو دويل القارئ لمقارنة موقف بي بي سي من فيلم غزة، وموقفها من فيلم وثائقي بثته عام 2023 عن جريمة استهداف المسلمين في كوجرات عام 2002 في الهند، وتورط رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي فيها. وقد بث الفيلم عام 2023 رغم اعتراض الهند وتهديد حكومتها بأخذ بي بي سي إلى المحكمة العليا. وعلى خلاف إسرائيل لم تتراجع بي بي سي.
ويقول دويل إن بي بي سي هي قصة نجاح معروفة حول العالم. وبنيت سمعتها على كونها تقدم صحافة من الدرجة الأولى والتزامها بالحيادية. ولا تزال صحافتها متميزة ومن الدرجة الأولى، لكن الإدارة العليا فشلت في تغطيتها لغزة وبدت أكثر حرصا على استرضاء المنتقدين المناهضين للفلسطينيين وليس الدفاع عن الصحافة المتميزة. فهل تفكر بي بي سي ولو للحظة في قتل فيلم وثائقي لأن الراوي أو مشغل الكاميرا كان قريبا لمستوطن إسرائيلي، أو جنديا ربما ارتكب جرائم حرب في غزة، أو سياسيا مذنبا بالتحريض على جرائم الحرب هذه، بل وحتى الإبادة الجماعية؟
المصدر: القدس العربي