عبد الباري عطوان
لم نكن نعرف أنّ أفيخاي أدرعي الناطق الرسمي للحُكومة الإسرائيليّة باللغة العربيّة هو الحاكم الفِعلي لمطار بيروت الدولي، عندما تجاوبت وزارة الأشغال والنقل اللبنانيّة مع تحذيراته فورًا بمنع هُبوط طائرتين إيرانيّتين تحملان آلاف، وربّما ملايين الدّولارات، من السّلطات الإيرانيّة لحزب الله، يستخدمها في شراء أسلحة، وكان لهُ ما أراد.
أي وزارة، بل أي حُكومة تتبعها تقبل أن تتلقّى تعليماتها من دولةٍ مُحتلّة لأرضها، وتمنع طائرتين مدنيّتين من الهُبوط في مطارها، ثم أينَ هذه السّيادة التي صدّعتنا بها هذه الحُكومة، وجعلتها البند الأوّل في بيانِ تأسيسها وسُلّم أولويّاتها وحصلت بمُقتضى ذلك وغيره على الثّقة في مجلس النوّاب، فهل الرّضوخ للتّعليمات الإسرائيليّة تنسجم مع شُروط هذه السّيادة؟
هذه ليست المرّة الأولى التي تُقدم فيها السّلطات اللبنانيّة على هذه السّابقة المُخجلة، فقد أقدمت على التّفتيش الذّاتي لركّاب طائرةٍ إيرانيّة قبل شهر، مُعظمهم من اللبنانيين، وبطريقةٍ استفزازيّةٍ بعد تحذيراتٍ إسرائيليّةٍ مُماثلة، والأخطر من ذلك جرى فتح وتفتيش حقائب لدبلوماسيين إيرانيين كانوا على متنها، في انتهاكٍ فاضحٍ لمُعاهدة فيينا التي تنصّ على حماية الدّبلوماسيين وعدم اعتِراضهم وتفتيش حقائبهم، وهو أمرٌ لم يحدث حتّى في ذروة الحرب الأهليّة في سبعينيّاتِ القرن الماضي.
***
أن يتظاهر أهالي الركّاب الذين جرى منع طائرتهم من الهُبوط في المطار يوم الخميس الماضي، وقيل إنّ مُعظمهم من أنصار “حزب الله”، احتجاجًا على هذه الخطوة غير المسبوقة، فهذا أمرٌ طبيعيّ، بل حتميّ، وإن كنّا في هذه الصّحيفة لا نُؤيّد كُلّ أشكال العُنف، وإغلاق الطّرقات، وإشعال النّيران في الإطارات، ولكنّ ردّ الفِعل يأتي مُنسَجِمًا مع حجم الضّرر، وخُطورة ما حدث وما يُشكّل من استِفزازٍ مُهين.
لا نُنكر حقّ السّلطات اللبنانيّة، والحُكومة الجديدة على وجه الخُصوص، في اعتقالِ الذين اتّهموا بالإقدام على أعمال العُنف، وباعتراضِ موكب سيّارات كانت تقل مجموعة من المسؤولين في قوّات اليونيفيل الدوليّة، وإصابة أحدهم، ولكن ولمرّةٍ أُخرى من حقّنا أن نُوجّه سُؤالًا إلى هذه السّلطات، وإلى قيادة القوّات الدوليّة أيضًا، ونقول لهم ماذا فعلتم عندما اقتحمت قوّات الاحتلال الإسرائيلي أحد مواقع هذه القوّات في جنوب لبنان وقتلت أكثر من ثلاثة جُنود بالرّصاص الحي، وأصابت عشرة على الأقل.
هُناك سُؤالٌ آخر نطرحه أيضًا على الحُكومة اللبنانيّة والقوّات الدوليّة معًا، وهو: ماذا فعلتم عندما انتهكت القوّات الإسرائيليّة وقف إطلاق النّار أكثر من 1500 مرّة في غُضون شهرين، وماذا ستفعلون ردًّا على قصف الطّائرات الإسرائيليّة اليوم السبت بلدة عيناتا قضاء بنت الجبيل، وحرقت بُيوتًا فيها، وقتلت وأصابت بعض سُكّانها بدمٍ بارد؟
لا بُدّ في هذه العُجالة من طرحِ سُؤالٍ ثالث، أو رابع، وهو لماذا لم ترد قوّات الجيش اللبناني ومعها القوّات الدوليّة (اليونيفيل) على المُسيّرات والطّائرات الإسرائيليّة التي تزدحم بها أجواء العاصمة اللبنانيّة وتكسر حاجز الصّوت فيها طِوال الشّهرين والنّصف الماضيين مُنذ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النّار؟
لا نعرف ما هي الجريمة التي ترتكبها إيران إذا قامت بإرسال أموالٍ إلى المُشرّدين من أهل الجنوب اللبناني، لإعادة ترميم بُيوتهم المُدمّرة، أو حتّى شِراء الخُبز والأطعمة الضّروريّة لأطفالهم؟ فهل قدّمت الحُكومة اللبنانيّة أي مُساعدات لهم تسد جُوعهم وتوفير الحدّ الأدنى من احتياجاتهم المعيشيّة؟ وهل سارعت الولايات المتحدة الرّاعية لاتّفاق وقف إطلاق النّار ورئيسة لجنة المُراقبة المسؤولة عن فرضه، ومنع انتهاكه، بتقديم أي مُساعدات ماليّة أو غذائيّة لهؤلاء المُهجّرين لإعادة إعمار منازلهم التي دمّرها العُدوان الإسرائيلي، وقالوا لا نُريد مُساعداتكم، ونُفضّل المُساعدات الإيرانيّة فقط.
وما يُقال عن الولايات المتحدة وفرنسا والدول الغربيّة الأُخرى التي تذرف دُموع التّماسيح “تعاطُفًا” مع الشّعب اللبناني، يُقال أيضًا عن جميع الدّول العربيّة، خاصَّةً تلك التي كانت تحرص على تسريع انتخاب رئيس لبناني جديد، وتشكيل حُكومة شرعيّة تُدير شُؤون البلاد، وتنعى الفراغ الدستوري.
***
السّلطات الإيرانيّة أصابت عندما ردّت بالمِثل على هذا التغوّل الحُكومي اللبناني رُضوخًا للأوامر الإسرائيليّة بمنعها هُبوط طائرتين لبنانيتين في مطار طهران لنقل الركّاب اللبنانيين الذين تقطّعت بهم السُّبُل وكانوا ضحيّة خطيئة تصرّفات حُكومتهم غير القانونيّة وغير الأخلاقيّة أيضًا، فالمُعاملة بالمِثل أسلوبٌ تتّبعه كُلّ السّلطات التي تحترم نفسها، وتملك الحدّ الأدنى من السّيادة والكرامة.
كُنّا وما زِلنا نتمنّى لو أنّ السّلطات اللبنانيّة، وما يُقال عن مُساعديها الخُبراء الأمريكيين الأمنيين في مطار الحريري في بيروت، أن تُقدّم لنا دليلًا واحدًا عن ضبْطهم آلاف أو ملايين الدّولارات التي كانت في حوزة ركّاب الطّائرة الإيرانيّة التي فتّشوها ورُكّابها، والنّساء من بينهم على وجهِ الخُصوص، وكانت في طريقها إلى “حزب الله” لشراءِ أسلحة.. ومِنْ مَنْ؟ هُناك مثل عربي يقول “كيف عرفتها إنها كذبة.. والإجابة من كُبرها!”.
هذه الاستِفزازات وما يُصاحبها من خنوعٍ من قِبَل الحُكومة اللبنانية الجديدة بتحريضٍ أمريكيٍّ فرنسيٍّ، وغطرسةٍ إسرائيليّة، واختراق اتّفاقات وقف إطلاق النّار، والإصرار الإسرائيلي على البقاء في خمس نقاط استراتيجيّة في الجنوب حتّى بعد الانسِحاب المُفترض يوم 18 شباط (فبراير) الحالي، ستُؤدّي حتمًا إلى عودة المُقاومة الإسلاميّة بزعامةِ “حزب الله” للحفاظ الفِعلي على السّيادة اللبنانيّة، أو ما تبقّى منها، ووضعِ حَدٍّ للغطرسة الإسرائيليّة، وتحرير الشّريط الحُدوديّ بالكامل مثلما حدث عام 2000، وحرب تمّوز عام 2006.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم