قالت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية في مقالين منفصلين، إن روسيا تعمل للحفاظ على التوازن في اللعبة السورية، بعد سقوط بشار الأسد، الذي اعتبرت الصحيفة أنه حرم الصين من شريك إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط.
رأت الصحيفة أن الروس يواجهون الوضع الجديد في سوريا بالواقعية الدبلوماسية، مشيرة إلى تركهم رفع علم المعارضة السورية على سفارة دمشق لدى موسكو في اليوم التالي لسقوط بشار الأسد، واستقبالهم للأخير وعائلته، بأكبر قدر من التكتم، مع بقائهم بمعزل عن العالم الخارجي منذ ذلك الحين.
أوضحت أن المعلومات التي سمح الكرملين بـ”تسريبها” يوم الأحد، أكدها نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، مساء الثلاثاء، حيث برر الترحيب بالرئيس السوري المخلوع بإعطاء بلاده زمام المبادرة: “هذا يظهر أن روسيا تتصرف كما ينبغي في وضع استثنائي” كما قال.
الروس يواجهون الوضع الجديد في سوريا بالواقعية الدبلوماسية، وسمحوا برفع علم المعارضة السورية على سفارة دمشق لدى موسكو في اليوم التالي لسقوط بشار
من جانبه، سارع السفير السوري لدى روسيا، بشار الجعفري، إلى تغيير جلده، حيث وصف نظام الأسد بأنه “مافيا فاسدة”، كما وصف منفاه بأنه “هروب مثير للشفقة”، وذلك في مقابلة مع قناة “روسيا اليوم” الموالية للكرملين.
أيضا، تحول “إرهابيو” الأمس في غمضة عين بالنسبة للسلطات الروسية، إلى “ممثلين للمعارضة” ومحاورين محترمين. ومن أجل تخفيف الصدمة الكبرى التي يمثلها فقدان الحليف السوري بالنسبة لموسكو، صدرت تعليمات لوسائل الإعلام التي تعمل الآن على تطوير “عنصرين أساسيين في اللغة”: الأولوية لأوكرانيا، وإذا فشل بشار، فذلك خطؤه، لأنه لم يستمع لنصائحنا.
الصحيفة الفرنسية اعتبرت أنه في ظل وضعٍ ما يزال شديد السيولة ومليئاً بالشك، تهدف روسيا من خلال عمل متوازن، إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه في بلد لعب دوراً محورياً لها، خاصة بعد عام 2015. فمع تقدم “المتمردين”، أصبح من الواضح أن روسيا لن تتدخل بأي طريقة جدية. وربما أدرك بوتين أن الوقت قد حان للتخلي عن بشار الأسد وإعطاء الأولوية للحفاظ على القواعد العسكرية الروسية في سوريا الجديدة.
المستقبل الغامض لقواعد الجيش الروسي
مضت “لوفيغارو” قائلة إنه من بين عشرات القواعد العسكرية التي يسيطر عليها الجيش الروسي في سوريا، هناك قاعدتان تشكلان أولوية مطلقة: قاعدة طرطوس البحرية، وهي القاعدة الروسية الدائمة الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. وقاعدة حميميم الجوية، على بعد حوالي ستين كيلومتراً شمالاً والتي تشكل مركزاً رئيسياً للانطلاق خاصة نحو أفريقيا. وقال المتحدث باسم الكرملين، يوم الأربعاء: “ نجري اتصالات مع الجهات التي تسيطر على الوضع في سوريا، والقضايا المتعلقة بتأمين هذه المنشآت مهمة للغاية”.
وبمجرد سقوط بشار الأسد، يبدو أن موسكو “تلقت ضمانات” بشأن أمن هاتين القاعدتين اللتين تضمان بالإضافة إلى السفن والطائرات، جزءا كبيرا من الجنود والمرتزقة الروس البالغ عددهم 7500، والذين كانوا في سوريا هذا الخريف. لكن علامات التوتر التي لوحظت حول القواعد في الأيام الأخيرة، في سياق القصف الذي نفذته إسرائيل لتحييد الترسانة السورية، شجعت على الحذر بشأن استدامة الوجود الروسي، توضّح “لوفيغارو”.
ومع ذلك، “من دون إمكانية وجود جسر جوي يمكن الاعتماد عليه، تنهار قدرة روسيا على إبراز قوتها في أفريقيا.. حيث إن إستراتيجية موسكو العملياتية بأكملها في البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا على المحك”، كما تنقل الصحيفة الفرنسية عن أنس القماطي، المتخصص في القضايا الإقليمية.
ويعترف رسلان بوخوف، رئيس مركز تحليل الإستراتيجيات والتقنيات في موسكو، للصحيفة، بأن عدم القدرة على الاحتفاظ بقاعدة حميميم سيمثل “خسارة كبيرة” لعمليات روسيا في أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الإمدادات مرت عبر حميميم، وذلك مهم بشكل خاص بالنسبة لدولة ليس لديها منفذ على البحر مثل جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تعد إحدى نقاط الدعم الروسية الرئيسية في القارة.
علاوة على ذلك، يتم تداول صور الأقمار الصناعية بشأن قاعدة طرطوس، وهي موقع أساسي لإعادة تموين وإصلاح السفن الروسية، والتي يمكنها البقاء في البحر الأبيض المتوسط دون الحاجة إلى المرور عبر المضائق التركية للوصول إلى قواعد الكرملين في البحر الأسود. وقد غادرت خمسة سفن بما في ذلك الفرقاطة الأدميرال غورشكوف الجديدة المجهزة بصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، والغواصة التي تعمل بالطاقة التقليدية بي-261 نوفوروسيسك، غادرت ميناء طرطوس، اعتبارا من يوم السادس من شهر ديسمبر الجاري، للرسو في الخارج، على بعد مسافة قصيرة من الميناء.
تنقل“لوفيغارو” عن إيغور ديلانوي، نائب مدير المرصد الفرنسي في موسكو، قوله: “كانت الفكرة هي مراقبة تطور الوضع على الأرض. حافظوا على هذه المسافة حتى لا يعرضوا أنفسهم للغارات التي شنتها القوات الجوية الإسرائيلية والتي دمرت الأسطول السوري في الرصيف. ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه القوارب ستعود إلى قاعدتها”.
يتابع ديلانوي: “كل شيء سيعتمد على المفاوضات مع السلطات السورية الجديدة وتركيا.. مهما كان ما وعدناهم به، فإن الروس سيكون لديهم مصلحة كبيرة في البحث عن حل بديل. بالنسبة للقاعدة الجوية، يستأجر الروس بالفعل أرضا في ليبيا من حليفهم الجنرال حفتر. فيما يتعلق بالقاعدة البحرية، سيعيد الروس تنشيط قنواتهم لمعرفة ما هو ممكن أيضا في ليبيا. لكن الوجود البحري الروسي في هذا البلد يشكل خطا أحمر أمريكياً”.
والبديل وفق “لوفيغارو” سيكون بورتسودان، حيث أعادت روسيا والسودان منذ الصيف، تنشيط المحادثات حول مشروع القاعدة البحرية الروسية في البحر الأحمر.
مع سقوط الأسد.. الصين تفقد دعما تاريخيا
في مقال آخر، اعتبرت “لوفيغارو” أن الصين خسرت بسقوط سلالة الأسد دعماً تاريخياً في الشرق الأوسط. وقد رحب الحزب الشيوعي الصيني بقدر من البراغماتية الممزوجة بالقلق، بالسقوط المفاجئ للنظام الاستبدادي الذي تعود صداقته إلى عصر ماو.
الصحيفة الفرنسية، ذكّرت بأن سوريا حافظ الأسد كانت “واحدة من أولى الدول العربية التي اعترفت دبلوماسياً بجمهورية الصين الشعبية ودعمت استعادتها الشرعية لمقعدها في الأمم المتحدة، كما أشار إلى ذلك الرئيس الصيني شي جين بينغ في شهر سبتمبر عام 2023. وفي قلب الحرب الباردة، كان حزب البعث التابع للأسد، يدعم بشكل طبيعي العملاق الشيوعي قائد الدفة الأكبر على حساب تايبيه عام 1971، في مواجهة الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
“لوفيغارو” اعتبرت أن السقوط المذهل للديكتاتور الأسد لا يشكل خبراً جيداً بالنسبة إلى الصين، حيث إنه يحرمها من “شريك استراتيجي” في المنطقة، حتى لو كانت لديها أدوات أخرى تم تشكيلها مع القوى الخليجية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
كما أن سقوط النطام السوري يعد انتكاسة للصين من حيث الهيبة، إذ يقلل بشكل أكبر من الدور الدبلوماسي لها في الشرق الأوسط. ناهيك عن الاستثمارات المفقودة، والتي سيكون من الصعب الحصول على تعويض عنها، كما يقول شي ينهونغ، الأستاذ الفخري في جامعة رنمين في بكين.
قبل عام واحد فقط، قام شي ببسط السجادة الحمراء لبشار الأسد في مدينة هانغتشو. وتمكن الديكتاتور السوري برفقة زوجته أسماء، من القيام برحلة نادرة خارج بلده المنبوذ على متن طائرة قدمتها بكين. وتم استقبال الزوجين كالنجوم، وأشعلت السيدة الأولى الفاتنة شبكات التواصل الاجتماعي الصينية بحضورها.
كما حظي بشار، ضيف حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية، بهتافات الجماهير في ستاد هانغتشو. وشكّل ذلك نسمة هواء منعش مع رائحة الانتقام للزعيم المحاصر، وكسر عزلته مع إظهار صموده في نهاية الحرب الأهلية الدموية. ثم أظهر شي جين بينغ بوضوح طموحاته غير المقيدة في الشرق الأوسط في تحد لواشنطن، تقول “لوفيغارو”، مضيفة أن الرئيس الصيني كان قبل ذلك ببضعة أشهر قد رعى مصالحة مذهلة بين إيران والسعودية، وكان يحلم بفعل الشيء نفسه بين الفصائل الفلسطينية.
ولم تخل زيارة الأسد من دوافع سليمة ومتعثرة وأمنية. لقد انضم الدكتاتور الذي يبحث عن الإعانات إلى “طرق الحرير الجديدة”، وكانت بكين تتطلع إلى إعادة إعمار سوريا المدمرة، مع احتياجات البنية التحتية الصارخة، توضح “لوفيغارو”.
وتابعت الصحيفة الفرنسية القول إن أجهزة الأمن الصينية أرادت معلومات عن المقاتلين الإيغور من حركة تركستان الشرقية الإسلامية، والذين ربما قاتلوا بالقرب من إدلب. وزار وفد من بكين المدينة عام 2021 بحسب موقع إنتليجنس أونلاين. وهذه المنظمة المقاتلة، التي اتخذها النظام الصيني مثل الفزاعة لتبرير سيطرته على المقاطعة الغربية الناطقة باللغة التركية، أزيلت من قائمة المنظمات الإرهابية من قبل دونالد ترامب في عام 2020، ويشكك العديد من الخبراء في أنها ما تزال نشطة.
واعتبرت “لوفيغارو” أن فرار بشار الأسد المؤسف إلى روسيا يضع نهاية مفاجئة لرقصة التانغو هذه، ولكن ليس للنفوذ الصيني المتنامي في الشرق الأوسط. فعلى غرار القوى الأخرى، سيتعين على بكين أن تتكيف بخفة مع الوضع الجديد غير المؤكد الذي بدأ في الظهور، ولكن يفترض أن تستمر في التأثير على حقبة ما بعد بشار بسبب ثقلها الاقتصادي والدبلوماسي. فلن يكون بمقدور أسياد دمشق الجدد أن يتجاهلوا تماماً عضواً دائماً في مجلس الأمن، له قيمة في موازنة الضغوط الغربية، وموفر للبنية التحتية، تقول “لوفيغارو”.
المصدر: القدس العربي