You are currently viewing ألم يحن الوقت لنحرّر أنفسنا!

ألم يحن الوقت لنحرّر أنفسنا!

 

ما الذي يمكن أن يُحرّرنا، نحن كأحزاب وحركات وأفراد، من حالة التسليم بالعجز عن أداء دور مؤثر تجاه شعبنا الغارق في دمائه، وأيضًا تجاه أنفسنا، تجاه البيئة القريبة الواقعة تحت التأثير المباشر وغير المباشر لحملة الإبادة في غزة، والتطهير العرقي في الضفة والقدس، والجريمة المنظمة وصنوف القمع والملاحقة داخل الخط الأخضر؟ كيف بات كل ذلك اعتياديًّا، وواصلنا بعد أشهر من حدوث الصدمة الأولى حياتنا اليومية والروتينية، في وقت لم تتوقف الإبادة الصهيونية بحق شعبنا فحسب، بل تتفاقم وتولد كوارث إنسانية جديدة رهيبة؟ هل فعلاً تمكّن المستعمر من دبّ الذعر فينا وشلّ معظم طاقاتنا، أم أن هذا السكون والمضي بحياتنا ومواصلة تفعيل مؤسساتنا، وإدارة مدارسنا، وإرسال أبنائنا إلى الجامعات، والاحتفاء بتخرجهم، وإطلاق محاولات عديدة للإسناد الشعبي قُمعت وهي في المهد، ليس إلا شكلاً من أشكال المقاومة والصمود والتحدي والبقاء؟ أم أن هذا رد فعل إنساني طبيعي في مواجهة توحش بالغ الشدة، وانتظار مرور العاصفة للعودة إلى الفعل السياسي المؤثر؟

في إطار الانشغال بتحليل هذا السلوك الجماعي والفردي غير الفاعل، لجأ البعض، ومن أصحاب الاختصاص، إلى توظيف علم النفس التحرري، وعلم النفس الاجتماعي، والسوسيولوجيا، وتم إلقاء الضوء على جوانب كانت مجهولة لغير المختصين. ومع أن هذا الاطلاع على هذه الحقول المعرفية من جانب شرائح غير متخصصة لم يترجم بعد إلى فعل منظم وشعبي مؤثر، إلا أنّه يساهم في صيانة التوازن الفردي والمجتمعي، بل يقع ضمن الفعل المعرفي التراكمي الذي يُعتقد أنه سيجد من ينقله من الأكاديميا أو الدوائر الضيقة إلى الشارع.

ولكن السياسيين، أو غالبيتهم الذين لا يقرأون إلا ما يتعلق بالراهن، اختزلوا أسباب هذا السلوك وغياب الفعل الشعبي في سياسات القمع والإسكات غير المسبوق في درجته، سواء داخل الخط الأخضر أو في الضفة الغربية، مجسّدين عجزًا عن إطلاق الخيال وابتكار أساليب احتجاج جديدة. بعضهم يُجامل المختصين والخبراء من دون الاستفادة من إنتاجاتهم، وبعضٌ آخر يستهتر بهم، بالقول إنهم، أي المختصين، ليسوا على دراية بتعقيدات العمل السياسي. قد يكون هذا صحيحًا جزئيًّا، وهناك بالفعل مختصون على غير دراية بذلك، ولكن إطلاق التعميم هو جزء من الهروب من واجب التخيل والابتكار، ومن غياب الجرأة.

يُقال إن جزءًا من ثقافة ذاكرة الهولوكوست، إضافة إلى الأحزان المختزنة في ذاكرة اليهود، هو شعور بالخزي في أوساطهم. وهذا الشعور نابع من كون المجرم النازي قاد ملايين اليهود، الألمان والأوروبيين، إلى معسكرات الموت ونفذ المحرقة بحقهم من دون مقاومة منهم، وأن هذا الشعور لا يزال قائمًا حتى اليوم، رغم أن هناك من يجتهد في استحضار تجربة المقاومة المسلحة البطولية التي قام بها عدد من اليهود من داخل أكبر غيتو في العاصمة البولندية، وارسو، وهي مقاومة استمرت لحوالي شهر قبل أن يقمعها النازي بوحشية ويحرق الغيتو على من فيه. طبعًا كان هناك أيضًا أشكال من المقاومات الفردية الجريئة غير المسلحة، مثل تهريب الطعام والدواء إلى داخل العديد من الغيتوات، مع كل ما حمل من مخاطر على حياتهم، وشكلت تلك المقاومة المسلحة وغير المسلحة فعلاً تحرريًّا إنسانيًّا طبيعيًّا. ونحن كشعب فلسطيني وكبشر نتماهى مع هذه المقاومة اليهودية، بصفتها ردًّا طبيعيًّا على الظلم وحقًّا طبيعيًّا في مقاومة الإفناء والإبادة.

وبسبب هذا الشعور بالخزي في أوساط اليهود، هناك من يُفسّر ممارسة الهمجية الصهيونية المتجلية الآن في مذبحة غزة، في كونها مركبًا من مركبات روح الانتقام، والتعويض عما لم يستطيعوا فعله ضد النازي الألماني، مرتكبي الإبادة اليهودية، وبدل ذلك يجري توجيهها ضد شعب ليس له علاقة بها، لا من قريب ولا من بعيد، بهذه المحرقة، وهذه هي المفارقة الأخلاقية الكبرى. طبعًا هناك في أوساط اليهود من مثقفين وكتاب وأصحاب ضمير، ويتزايد عددهم خصوصًا في الغرب، رفضوا ويرفضون هذه الهمجية الإسرائيلية المرتكبة حاليًا ضد الشعب الفلسطيني، والتي كانت ترتكب قبل السابع من أكتوبر بأشكال مختلفة، والتي مورست على مدار عقود طويلة، وقالوا إن ما من مبرر عسكري أو منطقي أو أخلاقي، أن يتحول شعب نجا من محرقة رهيبة إلى ممارسة أعمال فظيعة ضد شعب آخر، الذي لم يهاجر إلى أوروبا بحثًا عن اليهود ليقتلهم، بل كان يعيش في وطنه مع يهود فلسطين، الأصليين، بسلام لقرون قبل إطلاق المشروع الصهيوني الاستئصالي من داخل أوروبا الاستعمارية.

فهل نحن الفلسطينيين، داخل “الخط الأخضر” وفي الضفة الغربية، بعد انتهاء المذبحة المتواصلة في غزة، التي لا نعرف متى ستنتهي وكيف ستنتهي، سنجد أنفسنا في زمن قادم فريسة لهذا الشعور بالذنب وتأنيب الضمير والتقصير؟ وهل سيسأل الأبناء والأحفاد عن دورنا؛ لماذا خضعنا للترهيب، أو سكتنا؟ هل ستظهر روايات أدبية نقدية لاذعة من صنف رواية رجال في الشمس للأديب الثائر الشهيد غسان كنفاني “لماذا لم تدقوا جدران الخزان”؟ أم أن هناك أسبابًا وجيهة تكمن وراء غياب الفعل الشعبي المؤثر؟ أعتقد أن يهودًا كثر، وإسرائيليين، سيسألون أنفسهم بعد سنوات أيضًا كيف سمحوا لأنفسهم بالتواطؤ، أو بالسكوت، أو بالمشاركة في مقتلة غزة، وقد تشكل صحوة ضمير كهذه بداية أفق لقبول العيش المشترك على أنقاض نظام الأبرتهايد الكولونيالي وأيديولوجيته العنصرية والاستئصالية. هناك أصوات جديدة داخل إسرائيل بدأت ترتفع ضد المقتلة رغم أن أصحابها يُخوّنون وينبذون من المجتمع الاستيطاني الفاشي.

هناك ما يمكن فعله؛ حِراكات متواضعة متدرجة نحو حراك شامل

أينما جالت عينا المرء ترى جدرانًا شاهقة، فيزيائية ورمزية، يُقيمها المستعمر، ويُعززها العجز الذاتي. كما ترى العينان، ويدرك العقل، التنافر الحادّ في سلوك فريقين فلسطينيين؛ أحدهما يقاوم بطريقة أسطورية ويهزُّ ثقة المستعمر بنفسه، ويُثوّر شعوب العالم، رغم أنه وقع في خطأ حسابات جسيم؛ ومن جهة أخرى، فريقٌ غارقٌ في وحل الاستسلام، والتخابر، والفساد، والانحطاط. وفي المساحة الواسعة الممتدة بين المعسكرين، هناك طيف واسع من المحتجين والرافضين، والداعين إلى الإصلاح أو الثورة، ولكن أطرافه أو عناصره تلتقي حينًا وتتنافر حينًا، تنافر معبر عنه في تشنج وعقم في التفكير وفي غياب المقدرة على إدارة حوار مسؤول مطلوب بإلحاح. وغياب ذلك يزيد الطين بِلّة.

لستُ اليوم، أو منذ سنوات، في هيئة حزبية أو هيئة تمثيلية عليا، كما كنتُ في السابق، ولستُ في هيئة تنفيذية قيادية في أيّ من المبادرات الشعبية العديدة التي تسعى لتغيير الحالة الفلسطينية، ولكني لا أستثني نفسي من المسؤولية. أقول ذلك لأنه يتعين على كل فرد منا المشاركة في الجهد المطلوب لتحرير أنفسنا من حالة السكون والكمون. إن الدافع وراء تشكيل ووجود مبادرات شعبية ونخبوية ليس تفاديًا لتعمق الشعور بتأنيب الضمير، أو تعويضًا نفسيًّا عن العجز بإحداث التغيير، الشعور الذي قد يتحول لاحقًا إلى الشعور بالخزي، بل لأننا نحتاج إلى حراك حقيقي فعال الآن، ليس فقط للمساهمة في وقف الإبادة في غزة والتطهير العرقي في الضفة الغربية، الذي يجري تنفيذه في المخيمات وفي مناطق أخرى، وهي المهمة الملحة الآن، ولكن لأن هذا الحراك من شأنه أن يتحول في لحظة ما إلى قفزة واسعة، إلى جهد جماعي يحمينا جميعًا، يحمي وجودنا، ويصون نسيجنا الاجتماعي، ووعينا، وتوازننا النفسي.

في الضفة لا يستهدف التطهير العرقي المخيمات فحسب، بل كل الضفة الغربية، وهذه خطة معلنة. وفي داخل الخط الأخضر، يُترك العنان لغول الجريمة من دون ضوابط لتدمير مجتمعنا من الداخل، هذا الجزء من المجتمع الذي وصفه أحد وزراء نظام الأبرتهايد بأنه أخطر من القنبلة النووية الإيرانية، وهذا ما يفسر كل هذا العداء له، وما يُخطط له.

الفكرة المطلوبة هي ببساطة: حراكٌ شعبيٌّ مدنيٌّ واسعٌ ممتدٌّ وتراكميٌّ، نتشارك فيه مع اليهود المناهضين للإبادة والاستعمار والاستيطان والمناصرين للعدالة والمساواة. يبدأ الحراك بحراكات صغيرة ومتواضعة، اعتصامات داخل مراكز المدن والقرى، داخل منطقة 48، وفي الضفة الغربية، تُرفع فيه شعارات تطالب بوقف الإبادة والتطهير العرقي والجريمة، ويتم تطويرها إلى لقاءات فكرية وسياسية من داخل الميادين والساحات ومن داخل النوادي والمراكز الثقافية والأهلية، تناقش فيها أحوالنا، وذلك وفق خطة مرسومة ورؤية لتوسيع المشاركة الشعبية. ومن خلال هذا النشاط يستعيد الناس الحسّ بالجماعة، بل الحسّ بإنسانيتهم، ويعودون إلى السياسة. وبعد كل تطور وتوسع يتم دراسة الخطوات القادمة. لا بد لهذه الحراكات الشعبية المدنية أن تتحول إلى ملتقيات فكرية وثقافية، يجري فيها تناول الحالة السياسية العامة، والحالة الفلسطينية الداخلية. ويجب أن يستقر في الذهن التطلع إلى احتمالية تولّد تفاعلات وديناميات مهمة يتبلور في خضمها مسار شعبي تتوسع خيوطه وتترابط مع الزمن.

 

المصدر: عرب48

https://www.arab48.com/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B1%D8%A3%D9%8A/2025/04/29/%D8%A3%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%AD%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%82%D8%AA-%D9%84%D9%86%D8%AD%D8%B1%D8%B1-%D8%A3%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%86%D8%A7

شارك المقالة