You are currently viewing ترامب أو الاستعمار الجديد المقنّع بنوايا حسنة

ترامب أو الاستعمار الجديد المقنّع بنوايا حسنة

ثلاثة قرون تقريبا مرت على البشرية كان طابعها الطاغي هو حقبة استعمارية مباشرة ولدت من رحم النهضة الأوروبية والثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا، وكانت دوافعها الأساسية السيطرة على ثروات الشعوب الأخرى الغنية بالمواد الأولية للصناعة، وفتح أسواق تجارية جديدة لتصريف منتجاتها المصنعة، واستغلال اليد العاملة الرخيصة. وانبثقت عنها ثورات داخلية حرضتها البرجوازية الوليدة الساعية للتحرر من هيمنة الملكيات المستبدة القائمة على الاقطاعية الزراعية، كالثورة الفرنسية، والثورة البريطانية، في أوروبا. وثورة الشاي في أمريكا، في موازاة بث أفكار العدالة في دولة القانون، وحقوق الانسان (تقتصر على الداخل الأوروبي والأمريكي فقط).
لم تكن أمريكا في معزل عن استغلال الشعوب، وخاصة الإفريقية الذين ساقت ملايين منهم بالسلاسل إلى القارة الجديدة في أكبر عملية رق عرفتها الإنسانية لاستعبادهم في الحقول الزراعية والسخرة وفي كل الأعمال الشاقة المؤبدة. تمثال الحرية الذي نصبته فرنسا في جزيرة على أبواب نيويورك في العام 1885 بعد عقدين فقط من الحرب الأهلية بسببها الأول رفض تحرير «السود المستعبدين» وهذا النصب لبلد «الحرية» لم يكن سوى نصب يخفي خلفه إمبريالية كامنة ستنطلق مع الحرب العالمية الأولى، ونجاح الثورة البلشفية وتشكل الاتحاد السوفييتي المناهض لها إلى العالمية. فهي وقفت في وجه النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، ثم قضت على اليابان التي لم تستسلم بقنبلتين نوويتين قتل فيهما مئات الآلاف خلال يومين في صيف 1945، ومنذئذ نصبت نفسها «كشرطي الكرة الأرضية» فسيطرت على الاقتصاد العالمي بعد مؤتمر بروتون وودز وفرض الدولار كعملة عالمية تحل محل الذهب، وتمكنت من نهب مقدرات الشعوب خلال عقود طويلة بمن فيهم الأوروبيون عبر طبع مئات مليارات الدولارات التي لا تتعدى قيمتها الورق المصنوعة منه.
وقادت أولى حروبها الإمبريالية تحت مسمى «مواجهة الشيوعية» خاصة بعد نجاح الثورة الصينية، في كوريا في العام 1950، وكادت أن تستخدم قنابلها النووية بأمر من رئيسها هاري ترومان لولا أن مخابراته أنذرته بأن الاتحاد السوفييتي قد تمكن من امتلاك السلاح النووي أيضا ويمكن أن يرد الصاع صاعين، وانتهت بتقسيم كوريا بعد أربع سنوات من الحرب لأنها لم تتمكن من هزيمة بيونغ يانغ، ثم بعد هزيمة فرنسا في فيتنام في معركة «دين بين فو» التي كانت مدعومة من حلف الناتو، استلمت واشنطن عنها متابعة الحرب التي أنهتها في العام 1973 بهزيمة مخزية بعد سقوط سايغون، وهروب طاقم السفارة الأمريكية بحوامة حطت فوق سطح السفارة، وأعيد توحيد فيتنام الشمالية والجنوبية بعد أن قسمتها أمريكا على الطريقة الكورية. لقد هزمت أمريكا القوة العالمية الأولى من جيش قوامه الشعب، وبأسلحة فردية، وبعزيمة لا تفل. لكنها لم تتعلم الدرس بأن القوة المفرطة والغطرسة، وسياسة القتل والإجرام لا تؤدي بالضرورة إلى النصر، فبعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وانسحابه منها في العام 1989، غزت أمريكا أفغانستان في العام 2001 بعد أحداث 11 سبتمبر (التي يشكك الكثيرون في مسؤولية القاعدة عنها) يدعمها حلف الناتو وهناك واجهت جيش الطالبان الذي لم يكن يختلف كثيرا عن الفيتناميين من حيث تسليحه، وبعد عشرين سنة من القتال والقتل والتهجير خرجت أمريكا وحلفها مهزومة، وكان انسحابها بأمر من الرئيس مخزيا جو بايدن شاهدت صوره شعوب العالم أجمع.

حلفاء أمريكا الأوروبيون الرافضون أيضا لسياسة الفيل في المتجر العالمي يساورهم القلق خاصة بعد أن أفضح عن رغبته في وقف الحرب الأوكرانية بطريقة لم ترق لهم

ولم تكتف بغزو أفغانستان، بل تعدته إلى العراق بذريعة امتلاكه لسلاح دمار شامل الذي تكشف فيما بعد عن خدعة كبيرة اخترعها جورج بوش الابن الذي طبق نظرية مستشاره مارتن أنديك في «الاحتواء المزدوج»(أي احتواء العراق وإيران للاستحواذ على الثروات النفطية) فغزت العراق، وأسقطت نظام صدام حسين، وأطلقت يد إيران فيها ثم خرجت منه مهزومة أيضا، واليوم تخطط مع حليفتها إسرائيل باحتواء إيران بنفس الذريعة التي غزت فيها العراق بامتلاكها للسلاح النووي.
ينطبق على الرئيس الأمريكي من حزب الجمهوريين (الذين يعتمدون الفيل شعارهم) بالفيل في متجر زجاج، منذ اليوم الأول لاستلامه السلطة في البلد الأقوى في العالم راح يضرب شمالا، وجنوبا، وشرقا، وغربا، وكأن هذا العالم أمامه كمتجر للزجاج، فهو لم يتوان عن طرح «رغبات» (ربما كان يخطط لها بعد فشله في الانتخابات السابقة) أثارت استياء العديد ممن استهدفهم ككندا التي يريد ضمها بكل بساطة لتصبح الولاية الواحدة والخمسين، والدانمارك الذي يريد شراء غرينلاند منها، وبنما التي يريد أن يستحوذ على قناتها، وفرض الرسوم الجمركية العالية على منتجات كندية وصينية وأوروبية، وابتزاز السعودية بأموالها، وجمح خياله كتاجر عقارات باحتلال غزة وتحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط، وكالفيل الذي لن يخرج من متجر الزجاج إلا أن يهشم ما فيه، تبدو رغبات ترامب كعتبة أولى للخراب والفوضى في العالم، وكمثال فاقع لتناقضه الفكري كونه يقول بأنه يسعى لفرض السلام والاستقرار في العالم، ويريد للفلسطينيين الذين يصر على تهجيرهم إلى الأردن ومصر عنوة كأنهم كقطعان رعاة البقر في أمريكا التي كانوا يرحلونها من منطقة إلى أخرى، ولكن تحت ذريعة أن غزة لم تعد صالحة للسكن ومن الأفضل أن يعيشوا في منازل مريحة في البلدان الشقيقة. أي بمفهوم آخر استعمار جديد بنوايا حسنة يؤدي إلى نكبة جديدة رفضها الفلسطينيون ورفضها العرب وخاصة مصر والأردن رفضا قاطعا، وأثار حفيظة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي ألغى زيارته لأمريكا، والملك عبد الله الذي عبر بدبلوماسية رفيعة رفضه الأكيد، لعلم كل منهما أن مثل هكذا تطهير عرقي سيقيم الدنيا في أم الدنيا ولا يقعدها وكذلك في المملكة الأردنية التي يصعب عليها ضبط الشارع الأردني الذي يشكل الفلسطينيون غالبيته. وعاجل ولي العهد السعودي بالدعوة لمؤتمر قمة عربي لطرح مشروع بديل، لمشروع ترامب الاستعماري الاستيطاني، هذا في الوقت الذي ترفض فيه كل الفصائل الفلسطينية هذا المشروع بمن فيها السلطة الفلسطينية في رام الله. ويزداد الطين بلة باستفزازات دولة الاحتلال، وصفاقات رئيس وزرائها بالقول على السعودية بناء دولة فلسطينية على أراضيها فهي تملك مساحات واسعة تتسع لكل الفلسطينيين، ولمصر يقول إن صحراء النقب أيضا صالحة لسكن المهجرين من أرضهم، بل وأن أحد المواقع الإسرائيلية نشر تصورا في حال نشوب حرب بين إسرائيل ومصر فيمكن لإسرائيل ضرب السد العالي لتغمر المياه نصف المدن المصرية وتقتل لا يقل عن مليوني مصري، أو بلغة أخرى هي هيروشيما من نوع جديد ولكن دون استخدام سلاح نووي. هذه الرغبات والتصورات اللاعقلانية، تعتبر مقدمة لإثارة الحروب في الشرق الأوسط خاصة إذا قامت أمريكا وإسرائيل بضرب المشروع النووي الإيراني. حلفاء أمريكا الأوروبيون الرافضون أيضا لسياسة الفيل في المتجر العالمي يساورهم القلق خاصة بعد أن أفضح عن رغبته في وقف الحرب الأوكرانية بطريقة لم ترق لهم.
هذه الأمور مجتمعة تظهر أن رجلا واحدا يمتلك القوة والغطرسة والحسابات الخاطئة يضع العالم بأسره أمام تحد كبير ربما أودى إلى كارثة عالمية غير محسوبة النتائج، والتاريخ شهد سابقا حقبة مشابهة دفع العالم ثمنا باهظا مالا، ودما، ودمارا.

رياض معسعس

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

ترامب أو الاستعمار الجديد المقنّع بنوايا حسنة

شارك المقالة