You are currently viewing سبت الموت في غزة… مجازر بلا رحمة وأشلاء تتناثر على طريق الهروب

سبت الموت في غزة… مجازر بلا رحمة وأشلاء تتناثر على طريق الهروب

حين انتشلته فرق الإنقاذ من تحت الركام، كان الغبار قد عانق وجهه الصغير علاء فارس، حتى التصق بعينيه المفتوحتين على اتساع الرعب. لم يكن يدرك تمامًا ما الذي حدث، لكنه سأل المسعف بصوت مرتجف: «وين أمي؟». كان الطفل ناجيًا وحيدًا من بين أكثر من خمسين فردًا في منزل آل دردونة في جباليا البلد، شمال قطاع غزة، حين قصفت طائرات الاحتلال البناية ذات الطوابق الخمسة وسوّتها بالأرض.
طفل يبحث عن وجه أمه
ظل الطفل بين الحطام لساعات، صوته الضعيف كان يرشد رجال الدفاع المدني إلى موقعه. روى أحدهم لـ«القدس العربي»، ويداه ترتجفان وهو يضم جسده الصغير: «كان يبكي بصمت.. لم يكن يصرخ مثل الآخرين. كان فقط يريد أن يعرف إذا ما كانت أمه ستخرج من تحت الركام كما خرج هو».
في مستشفى الشفاء، جلس الطفل على سرير مهترئ، يحدّق في الفراغ. سأل الطبيب مرة أخرى: «أمي جايه؟». ولم يكن في مقدور أحد أن يجيبه. فالطفل فقد أمه وأباه وإخوته وكل من كان في المنزل. وحده، بقي شاهدًا على مجزرة بحجم وطن.
قال محمد فارس أحد الأقارب لـ«القدس العربي»: «كان محبوبًا في العائلة، يركض بين الغرف، يحمل لعبته ويضحك. الآن صوته الوحيد في العائلة.. والباقي، صمت الموت».
صورة الطفل بين أذرع أحد رجال الإنقاذ، وهو مغطى بالتراب والدم، تحولت إلى أيقونة جديدة للوجع الفلسطيني. الطفل الذي فقد كل شيء، وما زال يسأل: «وين أمي؟».

جمعة الموت في غزة

في يوم السبت، لم تستفق غزة من ركام الليل حتى باغتها نهار الموت. كان صوت الانفجارات يسابق صوت المؤذنين للفجر. منذ ساعات الصباح الأولى، بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ حملة قصف جوي ومدفعي غير مسبوقة على مختلف مناطق القطاع.
في حي الزيتون، سقطت القذائف على منزل لعائلة عليوة قرب مركز الشرطة، ما أسفر عن استشهاد سيدة وعدد من المصابين. في محيط الكلية الجامعية جنوبي المدينة، سُجلت إصابات في صفوف المدنيين عقب استهداف منزل آخر. وفي قيزان النجار وأبو رشوان جنوب خان يونس، دوّت أصوات المدفعية بلا توقف.
على جبهة الشمال، استمر القصف على جباليا، حيث تواصلت آثار المجزرة التي طالت منزل آل دردونة، ولم تتوقف طواقم الدفاع المدني عن البحث بين الأنقاض. شرقي جباليا، نسف الاحتلال مبان كاملة قرب الإدارة المدنية، في عملية وصفت بالأعنف منذ أسابيع.
في عبسان الجديدة شرقي خانيونس، غارة أخرى أسفرت عن استشهاد ثمانية مواطنين من عائلة الدغمة. لم يتمكن الأهالي من انتشال الجثامين إلا بعد ساعات من التنقيب اليدوي بين الحجارة المهدمة.
أما مستشفى العودة في تل الزعتر، فلم يسلم بدوره من الاستهداف، إذ فجّر الاحتلال روبوتًا مفخخًا في محيطه، ملحقًا دمارًا واسعًا بالمبنى. النيران اشتعلت داخل أقسام الطوارئ، وأصيب ثلاثة من الطواقم الطبية بجراح متفاوتة.
وعند دوار الصفطاوي، كانت مجزرة أخرى بانتظار النازحين. طائرة مسيرة إسرائيلية قصفت عربة كانت تنقل أثاث عائلة نزحت من بيتها قبل أيام فقط. الجثث تقطعت وتفحمت وسقطت في الشارع، والدماء سالت بين أغطية وكنبات مبعثرة.
في ختام اليوم، أحصت وزارة الصحة استشهاد 85 مواطنًا منذ مساء السبت، وسقوط مئات الجرحى. إنها جمعة الموت، كما أطلق عليها سكان القطاع الذين لم يعرفوا طعم الراحة لساعة واحدة.

جباليا.. مدينة الموت اليومي

كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا من يوم السبت، حين دوت الانفجارات في جباليا البلد. لم يكن سكان المنطقة يتوقعون أن تكون هذه الليلة كغيرها من الليالي الدامية، لكنها تجاوزت كل المجازر السابقة.
شاهد العيان سامي شبات، أحد جيران عائلة دردونة، يروي لـ«القدس العربي»: «رأيت الطائرات الحربية تحلق على علو منخفض، ثم سقط الصاروخ الأول فانهار الطابق العلوي. توالت بعدها الانفجارات، وسقطت البناية على من فيها. خرجنا نركض، وكان الدخان يحجب الرؤية، لكننا سمعنا صراخًا مكتومًا من تحت الأنقاض».
محمد النجار، أحد عناصر الدفاع المدني، أشار لـ«القدس العربي» إلى أن المجزرة كانت من أبشع ما شهدته طواقم الإنقاذ: «انتشلنا أطفالًا بلا رؤوس. بعضهم كان لا يزال دافئًا حين أخرجناه. الطوابق الخمسة سويت بالأرض. لم نستطع إنقاذ إلا ستة فقط، رغم أننا كنا نسمع أصوات أحياء تحت الركام».
من بين الشهداء، نساء وأطفال وعجائز. عائلات بأكملها أُبيدت في ثانية واحدة. صرخات الجيران وعمليات البحث والإنقاذ ما زالت مستمرة حتى كتابة هذه السطور، لكن لم يكن هناك ما يكفي من المعدات لرفع الركام الثقيل.
المتحدث باسم الدفاع المدني، محمود بصل، قال لـ«القدس العربي»: «في كل لحظة ننتشل جسدًا جديدًا. معظم الإصابات حرجة، وجميع الشهداء الذين وصلوا الشفاء هم من المدنيين. لو كانت لدينا معدات مناسبة، لربما أنقذنا المزيد».
بين الركام، عثر المنقذون على دفتر مدرسي لطفلة في الصف الرابع، مغلف بعناية. وبجانبه صورة عائلية يظهر فيها سبعة أطفال يضحكون. قال أحد المسعفين لـ«القدس العربي»: «أخرجنا الطفلة. لم يكن وجهها موجودًا، فقط دفترها الذي حملناه إلى سيارة الإسعاف».
عادل سمور، أحد أبناء العائلة الذين لم يكونوا في البيت ساعة القصف، قال لـ«القدس العربي»: «لم يتبقَ أحد. أمي، أبي، إخوتي، أولاد إخوتي، كلهم استشهدوا. هذا بيتنا منذ 35 سنة. كان ملجأنا الوحيد، والآن صار قبرنا الجماعي».
الحي بأكمله تغيرت ملامحه. البيوت المجاورة تضررت. الزجاج المهشم على الطرقات. رائحة الموت في كل زقاق. وجوه السكان شاحبة، تترقب الليل التالي كمن ينتظر نحره.
في المشفى، جلس رجل خمسيني يضرب رأسه بيديه، ويقول: «نحن في الجحيم. لم نعد نعد موتانا، صاروا أرقامًا.. صاروا عناوين أخبار».

الصفطاوي.. الطريق نحو الجحيم

في تمام الثانية ظهرًا، بينما كانت عربة نقل أثاثا تمر قرب دوار الصفطاوي، استهدفتها طائرة مسيرة بصاروخ مباشر. العربة كانت تقل نازحين فرّوا من جباليا البلد. في ثانية، تحولت العربة إلى كومة نار.
شاهد العيان فادي أبو الخير، قال لـ«القدس العربي»: «كنت على بعد عشرين مترًا. سمعت صفيرًا، ثم انفجارًا، ثم رأيت الجثث تتطاير. الجثث كانت متفحمة، بعضها سقط على الرصيف، وبعضها على الطريق. رأيت يدًا منفصلة تمسك بلعبة طفل».
تم نقل الشهداء بسيارات مدنية إلى أقرب نقطة طبية، لكن الأجساد كانت قد تحولت إلى أشلاء. عدد الشهداء في هذه المجزرة تجاوز الخمسة، بينهم امرأة وطفلان.
قال المسعف مصعب القادري لـ«القدس العربي»: «كانت هذه أول مرة أرى الجثث تذوب حرفيًا من شدة الحرارة. لم نتمكن من التمييز بين الضحايا إلا من خلال خواتم أو قطع ملابس متفحمة».
مستشفى العودة تحت القصف
في تل الزعتر شمال غزة، استهدف الاحتلال الإسرائيلي مستشفى العودة، أحد أبرز المراكز الطبية العاملة في المنطقة. القصف الأول جاء عبر طائرة مسيرة، بينما القصف الثاني تم بواسطة روبوت مفخخ فجّره الاحتلال قرب بوابة المستشفى.
مدير المستشفى، الدكتور محمد صالحة، قال: «أُصيب ثلاثة من الطواقم الطبية بجراح خطيرة. ألسنة النيران اشتعلت في غرفة الطوارئ، ومواد التخدير بدأت بالاحتراق. كنا على وشك انفجار شامل».
وأضاف لـ«القدس العربي»: «لدينا 19 مريضًا الآن، لا نستطيع إجلاءهم. الاحتلال يمنع حركة الإسعافات، والمبنى مهدد بالسقوط».
المشهد في المستشفى كارثي. أنين الجرحى يتصاعد، والأطباء يواصلون العمل وسط الظلام والدخان. منظمة الصحة العالمية لم تتمكن من إيصال أي شحنة إغاثة منذ أسبوعين.

الاحتلال يتعمد استهداف مستشفيات غزة

منير البرش، مدير عام المستشفيات في غزة، قال إن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد سياسة منظمة لإخراج القطاع الصحي عن الخدمة. وأوضح: «استهداف المستشفيات يتم بشكل مباشر، كما حدث في مستشفى العودة، والضغط يأتي من خلال الحصار الذي يمنع دخول الأدوية والمستلزمات».
وأضاف: «مستشفيات شمال قطاع غزة خرجت بالكامل عن الخدمة، نحن نعيش انهيارًا كاملًا للقطاع الصحي. لا كهرباء، لا وقود، لا أدوية، ولا ممرات آمنة. نُجري عمليات في الممرات وعلى الأرض. أطفالنا يموتون بسبب غياب الحواضن والمضادات الحيوية».
وأكد البرش أن ما يجري يرقى إلى جرائم إبادة جماعية لم يشهدها التاريخ الإنساني: «نحن أمام سياسة موت جماعي. الاحتلال لا يقصف فقط، بل يمنع الحياة من أن تستمر».
وتابع: «أرسلنا أكثر من 40 نداء استغاثة للأمم المتحدة، لكن لم يصلنا أي رد فعلي. بعض المستشفيات لم يتبق بها إلا كفوف معقمة، ولا يمكن تشغيل حتى مولد كهربائي واحد».
البرش ناشد العالم بالقول: «من لم يمت بالقصف، سيموت بالجوع أو المرض. غزة تُذبح، والعالم يتفرج».
وأشار إلى أن 24 مستشفى من أصل 36 مستشفى في قطاع غزة باتت خارج الخدمة، والبقية تعمل فوق طاقتها عشر مرات، مضيفًا أن شمال قطاع غزة بات بلا مستشفيات، حيث يُترك المرضى والجرحى للموت بلا أي وسيلة إنقاذ.
النزوح الكبير من الشمال
مع تصاعد العدوان على شمال القطاع، اضطر آلاف السكان إلى النزوح مجددًا نحو وسط غزة وجنوبها. شوارع مدينة غزة امتلأت بالأسر الهاربة. وجوه الأطفال تحمل الذهول، والنساء يجرجرن ما تبقى من متاع الحياة.
في شارع الصناعة، قال المواطن وسام أبو سلطان لـ«القدس العربي»: «نزحنا للمرة الثالثة خلال شهر. لم يتبق معنا شيء. ننام في الشارع، نأكل ما تجود به أيدي الناس. الأولاد لا يعرفون ما يعنيه الاستقرار».
في ساحة الكتيبة، غرب مدينة غزة، أقيمت خيام عشوائية للنازحين. كل خيمة تأوي أكثر من خمس عائلات. لا مياه، لا دورات صحية، والقمامة تتكدس على أطراف الأرصفة.
الناشطة الميدانية سعاد الشوا قالت: «نحن أمام كارثة صحية حقيقية. عشرات الحالات الجلدية، الإسهال، الجرب، كلها تنتشر بسرعة. أطفال بلا حليب، أمهات بلا طعام. إنه جحيم يومي».
في حي الرمال، رصدنا عائلة تبيت على درج بناية مهجورة. الأب محمود خلف قال لـ«القدس العربي»: «لو قصفوا هذا المكان، فلن يجدونا حتى ليدفنونا. سنصير غبارًا آخر يُكنَس من على الأرصفة».
وأضاف: «أصبح النزوح طقسًا يوميًا في غزة. الناس لم يعودوا يسألون أين يذهبون، بل كم من الوقت سيمكثون قبل أن يهربوا مجددًا».

 

المصدر: الوثيقة

http://alwathika.com/article/?t=126622

شارك المقالة