عبد الباري عطوان
استعداد الرئيس الفرنسي للاعتراف بقيام دولة فلسطينية مستقلة اثناء ترأسه مؤتمر للسلام بالاشتراك مع المملكة العربية السعودية ينعقد في مبنى للأمم المتحدة في حزيران (يونيو) المقبل يمكن اعتباره بأنه أحد ثمار الخلاف المتصاعد، الذي يمكن ان يتطور الى “تحرر” الاتحاد الأوروبي من الهيمنة الامريكية، وكأحد الردود القوية على تهميش الرئيس دونالد ترامب للاتحاد، بل واحتقاره المتزايد لدوله وزعاماته بتبنيه لشعارات “أمريكا أولا”؟
لم يكن غريبا ان يشن بنيامين نتنياهو، وابنه يائير، هجوما “وقحا” على الرئيس ماكرون، بتهمة الترويج لدولة “إرهابية” في قلب ما أسماه بالدولة الإسرائيلية، ونتوقع ان تشهد الأيام والاسابيع المقبلة تصعيد هذا الهجوم، واتهام الرئيس الفرنسي بمعاداة السامية، وربما النازية أيضا، خاصة انه أدان بطريقة مباشرة المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، وطالب بوقف فوري للحرب، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية “لأهله” وعقد قمة ثلاثية في العريش مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني.
***
ما يقلق نتنياهو ان يشجع إعتراف ماكرون بالدولة الفلسطينية المستقلة، وفي هذا التوقيت، دولا أوروبية أخرى وخاصة بريطانيا التي تتحمل مسؤولية تاريخية واخلاقية بتسهيلها ودعمها لقيام دولة يهودية على حساب الشعب الفلسطيني وارضه عام 1948.
سيطرة الكيان الإسرائيلي على الولايات المتحدة ورؤسائها لعبت دورا رئيسيا في منع الاتحاد الأوروبي من الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإقدامه على الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة في بداياتها، بحجة حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ولكن من المحتمل ان يتغير هذا الموقف الأوروبي بشكل متدرج بعد الطعنات المسمومة التي وجهها ترامب الى الاتحاد الأوروبي، وتمثلت في التفاوض من وراء ظهره مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحثا عن حل للازمة الأوكرانية، دون التشاور مع شركائه الأوروبيين، وتكررت هذه الطعنات المهينة عندما انخرط في مفاوضات مع ايران في العاصمة العُمانية مسقط للوصول الى اتفاق نووي جديد.
من سخريات القدر ان يتطاول هذا النتنياهو وابنه، الذي عاش طوال فترة الحرب على غزة في قصره في فلوريدا الامريكية، على فرنسا التي زودت “إسرائيل” بمفاعل نووي، وبالتكنولوجيا اللازمة لإنتاج أكثر من 90 رأسا ذريا، ولا نتردد في القول ان حكومة ماكرون تحاول التفكير ولو متأخرة أنها تستحق هذا الهجوم الوقح، لخروجها عن قيم العدالة والإنسانية بتبنيها لحرب الإبادة والتطهير العرقي في القطاع، والوقوف في خندق نتنياهو لأكثر من عام ونصف العام، في خروج عن إرث قادتها التاريخيين مثل شيراك وميتران الذين عارضوا الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بقوة.
من المؤلم ان هذا التحول المتدرج في الموقف الأوروبي الذي نتج عن صحوة أملتها سياسة ترامب لفرض ضرائب جمركية على صادراتها لبلاده، تتراوح بين 20 – 30 بالمئة ضاربا عرض الحائط بالتحالف التاريخي السياسي والعسكري مع الحلفاء الأوروبيين، يأتي في ظل غياب تحرك رسمي عربي مدروس بعناية، يبلور استراتيجية عربية أوروبية جديدة لمواجهة حرب الإبادة، والتحالف الإسرائيلي الأمريكي، تماما مثلما فعل حلفاء أمريكا في شرق آسيا وعلى رأسهم اليابان وكوريا الجنوبية، الذي يخططون حاليا لنقل البندقية من الكتف الأمريكي الى الكتف الصيني.
لا شك ان اعتراف فرنسا، ودول أوروبية أخرى، بقيام الدولة الفلسطينية خطوة جيدة، ولكنها لا تكفي، فهناك العشرات من قرارات الأمم المتحدة التي تساند هذا الحق، ولكن هذا لا يمنع البناء عليه سياسيا ودبلوماسيا من خلال استراتيجية عربية رسمية جديدة تستغل الخلاف الأمريكي الأوروبي المتفاقم، وتعمل على توسيعه بتعزيز التعاون والتنسيق، وعلينا ان لا ننسى اننا نشارك معظم دول الاتحاد الأوروبي بحوض البحر الأبيض المتوسط.
***
إسرائيل تعيش حاليا أسوأ ايامها، فلم تحقق أيا من أهدافها من حروب الإبادة التي تمارسها في غزة والضفة واليمن ولبنان، وأصبحت تقاتل على سبع جبهات لم تنتصر في أي منها، وما زالت الصواريخ والمسيّرات اليمنية والفلسطينية تتساقط على مستوطناتها في يافا وتل ابيب وحيفا وإيلات دون توقف، والأخطر من ذلك حالة التفكك الداخلي التي باتت تتضخم وتهدد بتسريع زوال الكيان في المستقبل المنظور، وأبرز مظاهر حالة التمرد داخل الجيش الإسرائيلي، وخاصة في سلاح الطيران الأقوى، وتقديم سبع عرائض حتى الآن لآلاف الطيارين وجنود وجنرالات الاحتياط الذين يطالبون فيها بوقف الحرب في غزة مقابل الافراج عن جميع الرهائن، ويهددون بعدم الخدمة العسكرية اذا لم يتم تلبية جميع شروطهم هذه، مما يعني ان السكين وصلت الى العمود الفقري لدولة الاحتلال.
دماء شهداء غزة والضفة واليمن ولبنان التي غيرت، وستغير، كل المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة والعالم، لن تذهب سدى، فها هي أمريكا، امبراطورية الشر، تصبح أكثر دولة مكروهة في العالم بأسره بعد مقامرة ترامب بفرض ضرائب لإنقاذ أمريكا من الانهيار بسبب تعاظم الدين العام (42 تريليون دولار) والعجز في الميزانية السنوية الذي بلغ تريليون و300 مليار دولار، وباتت تهديداتها لا تخيف أحدا، بل تعطي نتائج عكسية، ولعل هرولتها للمفاوضات مع ايران وروسيا وخسارتها المتسارعة لحلفائها التاريخيين في أوروبا وشرق آسيا، أحد الأمثلة التي تؤكد ما نقول، ومرة أخرى نقول شكرا ترامب.
المصدر: رأي اليوم