You are currently viewing الكيان الصهيوني وأفعال البلطجي

الكيان الصهيوني وأفعال البلطجي

أ.د. طالب أبو شرار
البلطة هي فأس على شكل المطرقة تنتهي بشّفرة عريضة من الصلب وتستخدم لتقطيع الأخشاب أو الذبائح. والبلطجية في مصر أو البلاطجة في اليمن أو الشبيحة في سورية أو الزعران في الأردن كلها مرادفات لجماعات خارجة عن القانون وتمارس نوعا من النشاط الإجرامي على فرد أو مجموعة أفراد أو حي بأكمله عن طريق الترهيب والتخويف لغايات فرض الرأي أو الولاء السياسي أو السرقة أو دفع الإتاوات. والبلطجي هي لفظة يعود أصلها إلى اللغة التركية وتنطق “بلتاجي” وتتكون من مقطعين: “بلطة” و”چي” أي حامل البلطة وهي على شاكلة توتنجي (من يقدم التبغ في المجالس” وقهوجي (من يقدم القهوة) ودكنجي (صاحب الدكان) وجواهرجي (الصائغ) ما الى ذلك من مسميات تركية. في البداية، شكَلَ البلطجية فرقة من الجنود العاملين في خدمة السلاطين العثمانيين تمحورت وظيفتهم في تقطيع الأشجار التي تعترض طريق السلطان أثناء توجهه للغزو ثم اشتغلوا لاحقا في القصور العثمانية للقيام بأعمال متنوعة مثل إطفاء الحريق وتنظيف الغرف وحماية وصيانة الديوان وتلاوة القرآن الكريم تحت الراية العثمانية أثناء المعارك استدعاءً للنصر.
في مراحل معينة من التاريخ العربي سادت ظاهرة البلطجية أو الفتوات في العديد من المدن الرئيسية كدمشق وحلب والقاهرة والإسكندرية وبغداد خاصة في الأوقات التي ينهار فيها النظام العام بسبب ضعف السلطة المركزية فيستشري الفساد ويعم الفقر ويسطو القوي على الضعيف فتصبح عصابات البلطجية صاحبة الأمر والنهي. انتشر هذا المصطلح كثيراً خلال ثورات الربيع العربي وتأسست مجاميع من البلطجية الذين استخدمتهم بعض الأنظمة أدواتٍ لقمع المتظاهرين أو تشويه أهدافهم. هناك أمثلة كثيرة تثبت ذلك ربما كان أبرزها هجمة راكبي الجمال والحمير والبغال والخيل على المتظاهرين في ميدان التحرير في مدينة القاهرة في 2 شباط 2011 والتي وثَقتها الصحافة العالمية. خلاصة القول إن سياسة البلطجة أصبحت وسيلة شائعة في بلادنا العربية يلجأ اليها خصوم الجماهير كلما احتدت المواجهة وقد نجحت تلك السياسة، في حالات كثيرة، في تكميم الأفواه وإطباق الصمت على الأصوات المعارضة. لكن وفي معظم الحالات وعند غياب سلطة الدولة ومن ثم غياب القانون والنظام العام تنمو ظاهرة البلطجية أو “الفتوات” في بعض الأقطار العربية وتصبح تلك المجموعات صاحبة الأمر الفصل في كافة الشؤون العامة. ولكي يستمر نفوذهم، يقومون بفرض الإتاوات خاصةً على التجار وبقية المتكسبين بل قد يفرضونها على الأحياء السكنية ويكلفون المخاتير بجمعها لصالحهم. ولإظهار سلطتهم غير المتنازع عليها يعمدون أحيانا الى تنظيم استعراضاتٍ للقوة وقد يتخللها تقَصُدُ إذلالِ البعض خاصة أولئك الذين يتجرؤون على تحدي سلطتهم كأن يمتنعوا عن دفع “المعلوم” المترتب عليهم أسبوعيا أو شهريا.
ما تقدم ليس استعراضا تاريخيا لحالة مرضية تظهر بين الفينة والأخرى في مجتمعاتنا المغلوبة على أمرها بل هو تمهيد لعقد مقارنة بين سلوك البلطجية المحليين وتصرفات الكيان الصهيوني الهجين. منذ بدايات وجودهم في بلادنا، اعتمدت “دولة الكيان الصهيوني” أساليب البلطجية فمارسته لكن على مدى أوسع بكثير لغايات إرهاب المدنيين الفلسطينيين ودفعهم الى الهجرة خارج وطنهم. يتحدث قادة ذلك الكيان وبدون مواربة عن كونهم سادة المنطقة بلا منازع أي أنهم “البلطجية” وأن نفوذهم سيمتد الى شواطئ الفرات. ولكي يُرسِخوا في عقولنا مدى هيمنتهم على مقدراتنا ومصائرنا عمدوا الى عدم الالتزام ببنود أية اتفاقية عقدوها حديثا وإن كانت بضمانات دولية أو محلية كتلك التي انتهى اليها وقف غاراتهم الإجرامية على بيروت ومدن لبنانية أخرى في 27/11/2024 أو ذاك الخاص بإنهاءِ هجماتهم على قطاع غزة في 15/1/2025. بعد ذلك، لم ينسحبوا من لبنان بل تمترست قواتهم في أربعة مواقع مرتفعة ومطلة على محيطها وأعلنوا أنهم لن ينسحبوا منها وأن هجماتهم الجوية ستستمر على لبنان بل على بيروت ذاتها لقمع التهديدات التي تستهدفهم مضيفين بذلك دمارا وقتلا وتشريدا جديداً يصعب إحصاؤه. وبنفس النهج البلطجي رفضوا استكمال مراحل اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة بل عاودوا هجماتهم الإجرامية على المدنيين المتعبين والمكلومين من إجرامٍ استمر خمسة عشر شهرا سبقت الاتفاق ذاك. ويا ليت ذلك انحصر في لبنان وغزة بل هو يتعداه راهنا الى الضفة الغربية التي يفرضون على بعض مخيماتها إخلاء فوريا تمهيدا لهدمها وتهجيرِ ساكنيها الى المجهول والى سوريا التي يستمرؤون استباحة أراضيها قصفا جويا واحتلالا أرضيا بلا توقف بما في ذلك قمة جبل الشيخ الإستراتيجية. السؤال البسيط الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو ما القصد من وراء كل ذلك؟ رغم ادعائهم بأن ممارساتهم تأتي تعزيزا لأمنهم فإن إرهاب البلطجية سالف الذكر هو أسلوب متعمد يهدف الى بث اليأس في النفوس ولسان حالهم يقول لكل من يحاول تحديهم أن عقابك سيكون على هذا النحو. بالأمس القريب (25/3/2025) احتلوا معسكرا فارغا هجره الجنود السوريون في منطقة الجولان ومنه تقدموا نحو بلدة كويا وهي بلدة بسيطة في حوض اليرموك الغربي الا أن أهلها الشرفاء منعوهم من دخول بلدتهم الوادعة فكان ردهم قصفٌ مدفعي وهجماتٌ عسكرية منسقة على مدنيين بسطاء استشهد منهم ستة وجرح خمسة وثلاثون آخرين. هم يقتلون بلا تردد فالقتل هو أسلوب البلطجية الذي خبرناه عبر تاريخنا الطويل. هو أسلوب المجرم الذي لا يفكر في الغد بل ينصب همه على خنق أية فرصة قد تؤدي الى تمرد أصحاب الحق والإطاحة بهيمنته فيمارس عملية تخويفهم وإرهابهم بشكل منتظم للحؤول دون ذلك.
ad
البلطجية لا يعرفون الصداقات إذ ينحصر ولاؤهم في ديمومة مصالحهم ولا يعنيهم أمر من حالفهم ودان لنفوذهم فظن أنه في منأى عن شرورهم إن خضع لإرادتهم وسار في ركابهم. البلطجية لا يكتفون بما توفره جبايتهم من أموال وفوائد عينية بل تطول قائمة مطالبهم بمرور الوقت ولا يملك المطواعون من أمرهم غير الرضى والرضوخ تلو الرضوخ. من عجائب أمور البلطجية ابتداع أساليب خنوع وإذلال لا تخطر على بال أحد كبدعة الديانة الإبراهيمية. هم يفرضونها على أتباعهم ويأمرونهم بأن يشيدوا لها المعابد الفاخرة لكنهم أنفسهم يظلون في منـأىً عنها. هم يعبثون بجغرافية وتاريخ بلادنا فيغيرون مناهج المدارس في الوقت الذي يحافظون فيه على مناهجهم الدراسية المحشوة بأيديولوجية الحقد العنصري وبالأساطير المقيتة التي يعلمونها لأبنائهم.
هم يتباهون بإجرامهم ويبررونها بأن جرائمهم ليست سابقة فالحلفاء عند احتلالهم برلين في أعقاب هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية اغتصبوا نحو 190 ألف شابة وامرأة ألمانية بل في كثير من الحالات اغتصبت نساء 60-70 مرة وأن نحو 1.4 مليون امرأة اغتصبن فقط في بروسيا الشرقية (تتبع في معظمها روسيا وبولندا وليتوانيا) وبوميرانيا (منطقة المانية بولندية على شاطئ البلطيق الجنوبي) وسيليزيا (منطقة تتبع بولندا في جزئها الأكبر) معتمدين في تقديراتهم على ارتفاع معدلات الإجهاض في الشهور اللاحقة وعلى تقارير المستشفيات المعاصرة للأحداث مع وفاة ما يقرب من عشرة آلاف امرأة في أعقاب ذلك بسبب مضاعفات صحية ناجمة عن الاغتصاب. وبكل تطاولٍ على المشاعر الإنسانية والقانون الدولي يعمد الصهاينة الى التخفيف من وطأة أفعالهم الإجرامية فتنشر حسابات رسمية “إسرائيلية” على منصة التواصل الاجتماعي “إكس” وقد حُذفت لاحقا: لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة! من المفارقة هنا أن يتجاوب بعض الساسة الأمريكيين مع مثل تلك التصريحات فبتاريخ 31/1/2024 تداولت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للنائب الجمهوري في الكونغرس الأمريكي عن ولاية فلوريدا، بريان ماست، يدعو فيها إلى إبادة جماعية للفلسطينيين في غزة، نافيا وجود أطفال أبرياء هناك.
عندما سألته ناشطتان: هل رأيت صور الأطفال الذين قتلوا؟ يجيبهما بالقول إن “هؤلاء ليسوا مدنيين فلسطينيين”. بالمناسبة في 13 تشرين أول 2023 أي عقب طوفان الأقصى، ظهر ذلك النائب في مبنى الكونجرس الأمريكي وهو يرتدي ملابس الجنود الإسرائيليين معلنا دعمه الصريح للكيان الصهيوني. لا يختلف ماست، وهو مجند سابق في الجيش “الإسرائيلي” ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي حاليا، عن زميله وزير الدفاع بيت هيغسيت الذي طبع وشم “كافر” باللغة العربية على عضد ذراعه الأيمن وأظهره لكاميرات الصحفيين خلال زيارة الى قاعدة بيرل هاربر-هيكام في هاواي بتاريخ 27/3/2025. هذا الوشم هو استحضار لفترة الحروب الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أي أنه مؤشر على عقلية قيادات الصف الأول في منظومة حكم دونالد ترامب الراهنة وهم في غالبيتهم من طائفة البروتستانت المتصهينين وهو أيضا استذكار لوحشية ومذابح الصليبين بحق المدنيين في حربهم ضد الإسلام في تلك الفترة المظلمة من تاريخنا.
ad
من نافلة القول في هذا الصدد أن المؤرخين المسلمين في تلك الفترة أشاروا لأولئك الغزاة بلفظة “فرنجة” أي الأجانب وأن الفرنجة أنفسهم هم من أطلق كلمة كافر “Infidel” على المسلم وهم أيضا من وصفوا أنفسهم بالصليبيين لأنهم كانوا يرتدون ثيابا رُسمت إشارةُ الصليب على واجهتها الأمامية. ولأن قتل أطفالنا أصبح عملا مباحا لا يثير استنكارا، فقد ذكرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA) أن جيش الاحتلال قتل في يوم واحد (27/3/2025( مائة وثمانين طفلا. أجل! ترتعش يدي وأنا أدون هذا الرقم “مائة وثمانين طفلا فلسطينيا”. يا إلهي! لا أكاد أصدق ما أقرأه! هل يُعقَل أن تغمض لنا جفون ونحن نستمع الى مثل تلك الأخبار المفزعة (أنا لم أعد قادرا على مشاهدة التلفاز). حتى الوحوش الضارية تأنف من قتل صغار فرائسها لكن الصهاينة بمجملهم، مدنيين وعسكريين، يقتلون أطفالنا أو يبتهجون لتلك الأفعال! لقد زرعوا حقداً وعداءً لن يخبوا من صدورنا بعد ألف جيل إذ كيف لِأيدِينا أن تمتد لمصافحة تلك الأيادي المجرمة! بل كيف لبني جلدتي أن يفعلوا ذلك! في النهاية ما كان لأولئك الشياطين من قدرة على ارتكاب كل تلك الفظائع دون مساعدة وغطاء سياسي من الولايات المتحدة، تلك الولايات التي كانت وما تزال الرائدةَ عالميا في فنون الإجرام واضطهاد الآخرين: في عام 1864 قال العقيد في الجيش الأمريكي جون تشيفينتون أثناء إطلاقه قذائف مدفعية الهاوتزر على قرية هندية مسالمة: إنه لا يجب استثناء الأطفال الهنود لأن القملة تنمو من بيضة القمل، ثم قال لضباطه: لقد جئتُ لقتل الهنود وأعتبر ذلك حقاً وواجبا شريفا ومن الضروري استخدام أي وسيلة تحت سماء الرب لقتل الهنود. ألا يذكركم ذلك بأقوال الصهاينة: نحن نقتل الأطفال الفلسطينيين لأنهم سيكبرون وسيصبحون أعداءنا في المستقبل! هم يقتلون أطفالنا حتى في أيام عيد الفطر!

 

المصدر/ رأي اليوم

الكيان الصهيوني وأفعال البلطجي | رأي اليوم

شارك المقالة