عبد الباري عطوان
يبدو أنّ “فرحة” الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بالإنجازات السياسيّة الكبيرة التي جرى تحقيقها في الفترةِ الأخيرة، وتمثّلت في إسقاط النظام السوري واستِبداله بحركة تحرير الشام بزعامة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا)، وإعلان عبد الله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردستاني المُعارض بقُبول وقف القتال وإلقاء السّلاح، يبدو أنّ هذه الفرحة لم تُعمّر طويلًا، والفضْلُ في ذلك يعود إلى قرار الرئيس أردوغان المُفاجئ باعتقال أكرم إمام أوغلو رئيس بلديّة إسطنبول وقبل ثلاثة أيّام من إعلان المُعارضة ترشيحه لخوص انتخابات الرّئاسة مُنافسًا له، وهو الاعتِقال الذي أدّى إلى انفجار مُظاهرات ضخمة في العاصمتين التجاريّة (إسطنبول) والسياسيّة (أنقرة) وعدّة مُدُن أُخرى، وحُدوث هزّة قويّة في الأسواق الماليّة (انخفضت الأسهم بحواليّ 10 بالمئة)، وانخفاض كبير في قيمة الليرة العملة الوطنيّة.
المُؤشّر المُتعارف عليه عالميًّا لقياس حجم الأزمات وحالة الاستِقرار أو عدمه في أيّ بلد هو مُعدّلات ارتفاع أو انخفاض الأسهم في أسواقِ المال، وأسعار العملات المحليّة، إلى جانب مُعدّلات التضخّم والبطالة، وكان لافتًا أن اعتقال الشّرطة التركيّة للسيّد إمام أوغلو و106 من شخصيّاتٍ مُهمّة في حزب الاستقلال “الأتاتوركي” المُعارض بتُهم الفساد أدّى إلى انخفاض أسعار الأسهم في البُورصة بنسبة 10 بالمئة مساء أمس الأربعاء، وانخفاض أسعار الليرة بحواليّ 6 بالمِئة، رُغم ضخّ 10 مِليارات دولار في الأسواق الماليّة لدعمها.
***
النّجاحات الاقتصاديّة الكبيرة التي حقّقها الرئيس أردوغان كرئيسٍ لبلديّة إسطنبول لعبت دورًا كبيرًا في وصول حزب العدالة والتنمية إلى سُدّة الحُكم في عام 2002، ولم يُغادره حتّى الآن، ولكنّ الوضع الاقتصاديّ الذي بدأ في التّدهور المُتسارع نتيجة السّياسات الاقتصاديّة غير الحكيمة التي أدّت إلى ارتفاع مُعدّلات التضخّم هو الذي أدّى إلى سُقوط الحزب الحاكم في الانتخابات البلديّة الأخيرة، وخسارته المُدُن التركيّة الثّلاث الكُبرى، إسطنبول وأنقرة وأزمير.
الثّنائي القاتل المُتمثّل في التضخّم المُرتفع وتراجع قيمة الليرة أدّيا إلى ازدياد مُعدّلات الفقر، وتراجع مُستوى المعيشة والقُدرة الشّرائيّة، ممّا خلق نقمةً شعبيّةً تمامًا مثلما حدث في الأرجنتين وسيريلانكا وتايلاند، وانفجار ثورات شعبيّة كاسحة غيّرت الأنظمة الحاكمة، وهُناك من لا يستبعد حُدوث الشّيء نفسه في تركيا.
لا نَشُكّ مُطلقًا في “دهاء” أردوغان، ولا نُشكّك في قُدرته على تجاوز الكثير من الأزمات التي واجهته وحُكمه طِوال السّنوات الـ 23 الماضية، ولكن يبدو أنّ الازمة الحاليّة التي أشعل فتيلها باعتقال خصمه ومُنافسه اللّدود رئيس بلدية العاصمة الاقتصاديّة والتاريخيّة (إسطنبول) الأكثر شبابًا، قد تكون ونتائجها مُختلفة عن كُل الأزمات السّابقة فجميع استِطلاعات الرأي تُؤكّد تقدّم السيّد إمام اوغلو في أيّ انتخاباتٍ رئاسيّةٍ قادمة، وجاءت عمليّة اعتقاله والمُظاهرات الضّخمة التي ترتّبت عليها لتُعزّز هذه الشّعبيّة.
الرئيس أردوغان، وحسب مُعظم الخُبراء في الشّؤون التركيّة الذين اتّصلنا بهم، أقدم على “مُقامرةٍ” خَطِرَةٍ جدًّا باعتقال خصمه إمام أوغلو لإخراجه من دائرة المُنافسة في الانتِخابات الرئاسيّة المُبكّرة التي يُخطّط لإعلانها في غُضون بضعة أشهر على أمل الفوز فيها والبقاء في الحُكم لفترةٍ رئاسيّةٍ أُخرى، وعدم الانتظار حتّى يتم الموعد الرّسمي للانتخابات عام 2028 التي لا يسمح له الدّستور بخوضها.
***
الرئيس أردوغان معروفٌ “بعناده” وتمسّكه بمواقفه، ولا يقبل غير الفوز على جميع خُصومه الذين كانوا يُشكّلون تهديدًا ولو بسيطًا لزعامته للحزب الحاكم، وإبعادهم من طريقه، والأمثلة كثيرةٌ ابتداءً من عبد الله غل، أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، ولكن قد تكون إزاحة أكرم إمام أوغلو مُرشّح المُعارضة الذي يتربّع على عرش بلديّة إسطنبول ثاني أهم منصب في تركيا بعد الرئيس مسألة أصعب بكثير من كُل سابقاتها، ولكنّ الرئيس أردوغان لن يرضخ في تقديرنا للمطالب القويّة المُتصاعدة التي تُطالبه بالإفراج عن أكرم أوغلو، وفي هذه الحالة قد يجد نفسه أمام خِيارين: الأوّل، الاستِمرار في اعتِقاله ومُحاكمته وتأجيل خطّته لإجراء انتخابات رئاسيّة مُبكّرة لكسب الوقت، والثاني، أن تستمر الاحتجاجات وتتوسّع وتقود إلى حالةٍ من الفوضى، وربّما إعطاء الجيش الذّريعة للإقدام على الانقِلاب العسكري، والسّيطرة على السُّلطة، على غِرارِ ما حدث أربع مرّات في السّابق.
هل هي “لعنة سورية” مثلما يقول الكثيرون من خُصوم أردوغان في سورية والعالمين العربي والإسلامي؟ نَترُك الإجابة للأيّام والأسابيع القليلة القادمة التي قد تكون الأخطر في تاريخ تركيا الحديث واللُه أعلم.
المصدر: رأي اليوم