نشرت مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” مقالًا للمؤرخ الأمريكي كريستوفر أر براونينغ قدّمَ فيه رؤية تاريخية وأكاديمية عن ترامب ومعاداة السامية. وقال إن إدارة ترامب لو كانت حريصة وقلقة على مكافحة معاداة السامية، يجب عليها أن تبدأ بمكافحتها بين أنصارها.
وأشار، في مقالته، إلى إلغاء الإدارة، في 10 آذار/مارس، التمويل الفدرالي عن جامعة كولومبيا وتجميد مبلغ 400 مليون دولار. وبنفس السياق، أرسلت وزارة التعليم رسالة إلى 60 جامعة وكلية حذرت فيها من نفس التداعيات، لو لم توفر الحماية والسلامة لطلابها اليهود، بما في ذلك “دخول بدون عرقلة إلى منشآت الحرم الجامعي وفرص التعليم”.
وأرفقت الرسالة ببيان من وزيرة التعليم ليندا ماكماهون قالت فيه إن الطلاب اليهود في هذه الجامعات “يشعرون بالخوف على سلامتهم، وسط اندلاع لمعاداة السامية الذي عرقل الحياة في الحرم الجامعي لأكثر من عام”.
وقال براونينغ إنه قضى مسيرته الأكاديمية في ثلاث من هذه الجامعات: جامعة باسيفيك اللوثرية في تاكوما، واشنطن، حيث درس لمدة خمسة وعشرين عامًا، وجامعة نورث كارولينا في تشابل هيل، حيث درس لمدة خمسة عشر عامًا، وجامعة واشنطن في سياتل، حيث درس بعد تقاعده كأستاذ زائر لفصلين دراسيين. وفي جميع هذه الجامعات، درس بانتظام مقررًا دراسيًا حظي بإقبال كبير حول تاريخ الهولوكوست. ونشر خلال مسيرته الأكاديمية ثمانية كتب عن ألمانيا النازية والهولوكوست، فازت ثلاثة منها بالجائزة الوطنية للكتاب اليهودي في فئة الهولوكوست. وقال: “باختصار، أنا على دراية بظاهرة معاداة السامية كما تجلت في التاريخ”.
وأشار إلى تمظهر معاداة السامية بين أنصار ترامب في حملته الانتخابية لعام 2016، حيث نشر إعلانين سيئي السمعة، أحدهما يظهر منافسته هيلاري كلينتون على خلفية أوراق نقدية من فئة مئة دولار ونجمة داوود، والآخر يعد بالحماية من المصالح الخاصة العالمية، ويظهر صور ثلاثة ممولين يهود، جانيت يلين وجورج سوروس ولويد بلانكفين. وكان كلا الإعلانين تجسيدًا صارخًا للتشهير الكلاسيكي المعادي للسامية للمال اليهودي والممولين اليهود كمصدر للقوة وراء الخصم.
في آب/أغسطس 2017، وفي مسيرة “يونايت ذي رايت” (وحدة اليمين) في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا، سار المتظاهرون حاملين الصليب المعقوف وأعلام الكونفدرالية في موكب مشاعل على الطراز النازي، وهم يرددون الشعارات النازية “الدم والتراب”، و”لن يحل اليهود محلّنا”. ردًا على هذا الحادث، وجد ترامب أن هناك “أشخاصًا طيبين” على “كلا الجانبين”.
بعد أحداث 6 كانون الثاني/يناير 2021 والهجوم على الكونغرس، والذي حاول المشاركون فيه إلغاء الانتخابات القانونية وفوز منافسه، جو بايدن، أثنى ترامب على المشاركين الذين اعتقلوا ووصفهم بأنهم “رهائن سياسيون” و”وطنيون”، ولم يقل إن كانت هذه الأوصاف تنطبق على من ارتدوا قمصانًا كتب عليها “معسكر أوشفيتز” و”6 أم دبليو إي”، والتي تعني “ستة ملايين لا تكفي”.
منذ أن تناول العشاء في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بمقره مار ا لاغو مع المعادي للسامية كايني ويست ومنكر الهولوكوست نيك فونتيس، يبدو أن ترامب لم يكترث بهذه الصحبة أو المشاعر.
في الفترة التي سبقت انتخابات 2024، أعلن أنه في حال خسارته، فسيكون ذلك بسبب عدم تصويت عدد كبير جدًا من اليهود الأمريكيين له، وهو تكتيك معاد للسامية بشكل متكرر: إذا ساءت الأمور، ألقِ اللوم على اليهود.
وباختصار، لو كانت إدارة ترامب حريصة على مواجهة معاداة السامية، لكانت قد بدأت بتنظيف بيتها من الداخل. وبدلاً من ذلك، انتهزت وزارة التعليم، التي سيعلن ترامب عن تفكيكها، مبرر معاداة السامية كحملة هدفها الحقيقي تجريد التعليم العالي من تمويله وتقويض معنوياته وتقليصه. وتستمد هذه الحملة قوتها من حقيقة أن جوهر التعليم العالي وغايته يتعارضان تعارضًا صارخًا مع واقع ترامب البديل.
ويستند “عالم ترامب” إلى خيال مصاب بجنون العظمة وهوس بنظريات المؤامرة والتفكير الطموح والاختراع المستمر والدائم للمعلومات المضللة والتصريحات الكاذبة التي لا يمكن دحضها بالأدلة والمنطق.
وفي المقابل، فإن من بين وظائفها العديدة، تعد الجامعات والكليات أماكن للأبحاث العلمية والطبية، التي تتناول قضايا مثل تغير المناخ واللقاحات، بالإضافة إلى الدراسة القائمة على حقائق التاريخ والاقتصاد.
ومهما كانت حوادث معاداة السامية المؤسفة في الجامعات الأمريكية، فإن هذا لا ينبغي أن يحجب القضية الأوسع. يجب ألا تتعدى الجامعات والكليات على حق حرية التعبير المكفول دستوريًا لجميع المواطنين. فهي ملزمة بحماية الحرية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس والطلاب، تمامًا كما هي ملزمة بضمان معاملة أعضاء هيئة التدريس والطلاب باحترام وكياسة وحمايتهم من المضايقات.
وما لا يمكن للجامعة أو الكلية فعله هو محاولة حماية طلابها من القلق الناتج عن التحديات الأكاديمية أو الخلافات السياسية التي تؤثر على المجتمع بأسره، ذلك أن الحرم الجامعي ليس ملاذًا آمنًا من المضايقة.
ويقول براونينغ إن ترامب، بالإضافة إلى كونه من أبرز مروّجي معاداة السامية ومشرعيها في السياسة الأمريكية، وارتباطه غير المشروع بالنازيين الجدد من دعاة تفوق العرق الأبيض، كان مناصرًا صريحًا للعنف غير المقيد ضد الفلسطينيين.
وقد حث إسرائيل على إنهاء الصراع في غزة بسرعة، وهو ما يعنيه بالتأكيد أنها لا تحتاج إلى اتخاذ أي احتياطات لتجنّب سقوط ضحايا من المدنيين. وأعلن عن نيّته في أن تستولي الولايات المتحدة على غزة لأغراض التنمية الترفيهية، وأن تطهرها عرقيًا بإرسال سكانها إلى دول أخرى.
وقد شكلت هذه الأفعال في محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية جرائم عدوان وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وحكم على الألمان الذين أصدروا أو أطاعوا الأوامر بارتكاب مثل هذه الأفعال الإجرامية بالسجن.
ومن المتناقض جدًا، ولكن ليس من المستغرب، أن يتظاهر ترامب بالسخط على مضايقة الطلاب اليهود، بينما يدعو علنًا إلى العنف الإجرامي ضد الفلسطينيين. وبالتالي فحملته ضد معاداة السامية في الجامعات ليست سوى ذريعة منافقة لهجومه على التعليم العالي الأمريكي.
المصدر: القدس العربي