سمير عادل
قال جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في عهد هتلر (1933-1945): “اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الآخرون.” هذا تمامًا ما فعله التحالف الغربي، بدءًا من جو بايدن، الرئيس الأمريكي السابق، وإيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، وأولاف شولتز، المستشار الألماني، وبوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، مرورًا بسلفه ريشي سوناك، عندما صوّروا وروّجوا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على أنه البطل الذي يدافع عن قلعة الديمقراطية الغربية، متصدّيًا لما سموه “الإمبريالية الروسية” وأحلام زعيمها فلاديمير بوتين. بل إن زيلينسكي نفسه صدّق هذه الأكذوبة، فبات يرى أنه هو من حمى أوروبا من الغزو الروسي، بل وأكثر من ذلك، قال لترامب ان المحيطات بين أميركا وروسيا لن تحمي الولايات المتحدة من روسيا، مما أثار غضب ترامب.
كثيرون هم الذين نفخ الغرب في صورتهم، محوّلاً إياهم إلى نمور من ورق، لتمرير مشاريعه الجهنمية على حساب أمن ومعيشة وكرامة الطبقة العاملة والجماهير الكادحة في بلدانهم. بدءًا من ليش فاليسا في بولندا، وميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين في روسيا، واحمد الجلبي وإياد علاوي ونوري المالكي عرابي الغزو واحتلال العراق، وأبو بكر البغدادي، الذي التقى به السيناتور الأمريكي جون مكين، رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأمريكي والمرشح الرئاسي السابق، في سوريا عام 2013. وكذلك أشرف غني، الرئيس الأفغاني الهارب، ومحمد رضا بهلوي، شاه إيران، وحسني مبارك، والقائمة تطول ولا تنتهي.
الدفاع الأوروبي الذي هو في الأساس ظاهري عن الرئيس الأوكراني زيلينسكي، بعد أن حطّم دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس صورته أمام العالم، في اللقاء الأخير الذي جمعهم في البيت الأبيض، لا ينبع من حرصهم على أوكرانيا وسيادتها أو عدالة قضيتها، فهذا آخر ما يشغل بال زعماء الدول الأوروبية. بل يعود ذلك إلى سببين رئيسيين: أولا لم يكن في حسبانهم أن يضعهم ترامب بهذه السرعة أمام أمر واقع، يتمثل في إنهاء الحرب في أوكرانيا وتتويج بوتين بطلاً لها، محققًا بذلك جميع الأهداف الروسية من الغزو. لقد تجاهلت ادارة ترامب تمامًا المصالح الأوروبية، وتركتهم بلا وقت كافٍ لإعادة ترتيب أوراقهم مع الكرملين، أو حتى حفظ ماء وجههم. ثانيامحاولة إظهار الوحدة بين القادة الاوربيين، وإن كانت هشة، وحتى ان كانت شكلية ودعائية، هي في الحقيقة لمواجهة سياسة ترامب الحمائية، وابتزازه السياسي والمالي لإبقاء الولايات المتحدة ضمن حلف الناتو. الضجيج الإعلامي الذي يثيره ماكرون وكير ستارمر الرئيس البريطاني وشولتز وجورجيا ميلوني رئيسة وزراء ايطاليا ليس سوى محاولة يائسة لكسب الوقت والخروج من المأزق الذي وضعتهم فيه الإدارة الأمريكية.
وكما خضع القادة الأوروبيون في الاتحاد الاوروبي تدريجيًا لسياسة الحرب التي فرضتها إدارة بايدن وحكومة جونسون في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا – سواء عبر تشديد العقوبات، أو تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، أو تقديم الدعم المالي والعسكري لكييف، أو حتى التغاضي عن تفجير خط السيل الشمالي 2 – فإنهم اليوم يبحثون عن إعداد سيناريو مشابه، ولكن في الاتجاه المعاكس، بهدف النزول من الشجرة التي صعدوا عليها عنوة بدفع من إدارة جو بايدن.
ان معضلة الاتحاد الأوروبي وقادته فاقدي البصيرة تكمن في انعدام الأفق السياسي أمامهم، خاصة مع المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه، والمستنقع الذي غرقوا فيه، والذي يُدعى أوكرانيا. ومع هذا فان القصة تتجاوز أوكرانيا بكثير؛ إنها قصة ما بعد اليوم التالي لانتهاء الحرب. فالطرف الذي ينتصر في أوكرانيا هو من سيرسم الملامح السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية للقارة الأوروبية، تمامًا كما حدث عقب الحرب العالمية الثانية، عندما كان انتصار الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كفيلًا بإعادة تشكيل أوروبا، حيث تقاسما النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري. إلا أن الفارق الجوهري اليوم هو غياب أي مشروع أمريكي مماثل لخطة مارشال، بينما تتقدم الإمبريالية الروسية وحدها لتكون لاعبا رئيسيا في رسم مستقبل أوروبا السياسي.
وعلى عكس أوروبا، فإن الأفق واضح تمامًا أمام الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، التي يقودها اليوم دونالد ترامب، حيث تعتبر أوروبا مجرد تابع، ولا ترى مانعًا في تسليم أمنها لروسيا في مقابل تحقيق هدفها الأسمى: فصلها عن الصين، والانفراد بمواجهتها واحتوائها باعتبارها العدو الرئيسي للولايات المتحدة.
أما زيلينسكي، فقد ضحى بأمن وسلامة الشعب الأوكراني، مقدمًا الآلاف من الشباب الأبرياء قرابين لمشروعه القومي الزائف، الذي لم يكن سوى واجهة لمصالح الإمبريالية الأمريكية. السيادة التي تبجح بها، والتي ساق المجتمع الأوكراني وبنيته الاقتصادية نحو محرقة الحرب، ها هو اليوم يقدّمها على طبق من فضة للإمبريالية الأمريكية، عبر السماح لها بالاستحواذ على ثروات أوكرانيا تحت غطاء زائف من “الضمانات الأمنية” التي لم ولن يحصل عليها، سواء من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي الا بصيغة تعهد من قبل روسيا كما كان في اتفاقات (مينسك ١) (مينسك ٢) الذي ضربا بعرض الحائط من قبل التحالف الغربي وحلف الناتو.
إن كراهية بوتين للينين، قائد ثورة أكتوبر 1917، والتي لا يفوّت أي مناسبة قومية دون التعبير عنها، تعود إلى أن الأخير تنازل عن مليون كيلومتر مربع من الأراضي لصالح ألمانيا وعدد من دول أوروبية اخرى من أجل إنهاء الحرب العالمية الأولى، ووضع حد لنزيف الدم. أما زيلينسكي، فقد قدم حياة شباب أوكرانيا ومستقبلهم قربانًا لمصالح البرجوازية القومية الأوكرانية، وممثليها السياسيين الفاشيين الفاسدين، الذين ربطوا مصيرهم بمصالح الإمبريالية الغربية، متفوقين حتى على فاسدي العملية السياسية في العراق، الذين جعلوا أنفسهم أداة بيد البرجوازية القومية الإيرانية، مسخّرين لخدمة مصالحها وسياستها التوسعية تحت راية “ولاية الفقيه”.
وتثبت مجريات الأمور في أوروبا وأوكرانيا أن مفاهيم السيادة وحقوق الإنسان والديمقراطية لا تساوي شيئًا ولا تحمل أي قيمة عندما توضع في كفة الميزان أمام المعادن الأوكرانية والمصالح التوسعية للإمبريالية الروسية والأمريكية والفرنسية والألمانية والبريطانية والإيطالية. إنه درس بليغ لأولئك الحمقى من السياسيين الذين يعلّقون آمالهم وأمانيهم دائمًا على السياسة الأمريكية، وعليهم أن يتعلموا منه، ويكفوا عن الترويج لها، والكفّ عن اغراقنا بدعاياتهم الزائفة.