You are currently viewing

د. سعد ناجي جواد
لا أستطيع مهما أوتيت من قدرة على الكتابة ان أصف مشاعري الغاضبة وألمي الكبير واشمئزازي يوم امس وانا أتابع ما يجري في البيت الأبيض. ولا أدرى كيف تحملت سماع أحاديث هي أقرب لتخاريف نهاية العمر. لقد كان ذلك يوما اسودا بكل ما تحوي الكلمة من معاني، ويمكن ان يكون بداية لأيام سوداء قادمة، ليس فقط لأبناء غزة وللفلسطينيين فقط، ولكن لكل العرب. ما قاله الرئيس الأمريكي وما ينوي فعله فاق ما قامت به الولايات المتحدة وقبلها بريطانيا منذ وعد بلفور والغرب بصورة عامة منذ عام 1947 ومنذ قيام دولة الاحتلال في فلسطين. لقد منح السيد ترامب لنفسه الحق في طرح فكرة تهجير أكثر من مليوني شخص، هم ابناء غزة عنوة، وكذلك الحق في اختيار الأمكنة التي يجب ان يذهبوا اليها، ومنح دولة الاحتلال الحق في ضم الصفة الغربية والتوسع حسب ما تشاء في مناطق الجوار (لانها دولة صغيرة جدا بحجم راس القلم). وضرب عرض الحائط كل القرارات الدولية التي صدرت على مدى أكثر من سبعة عقود، بحق الفلسطينيين في العودة إلى بلادهم واقامة دولتهم فوق ارضهم، وهي قرارات صادقت عليها واشنطن جميعا.
في البداية هو كذب حينما قال ان التهجير هو لأسباب إنسانية لان غزة لم تعد صالحة للعيش، وان غزة (مليئة بالقنابل غير المنفجرة ولا يوجد فيها اي شيء من مقومات الحياة)، وان أعمارها يتطلب ان تكون خالية، وان الغزاويين سيعودون بعد ذلك ليعيشوا في مكان جميل سيتم إعادة بناءه (بأموال عربية). ثم عاد وقال انهم لن يعودوا لأنه قرر ان يبني لهم مدنا جميلة (وبأموال عربية ايضا) في المناطق التي سينقلون لها (مصر والأردن)، او اي بلد آخر يقبلهم. وظل يكرر ان مصر والأردن رفضتا، ولكنهما سيقبلان، او سيغيران موقفهما، ولم يقل لنا كيف؟ او هل يخطط لإجبار قادة البلدين على فعل ذلك؟ واختتم ذلك بمؤتمر صحفي مع مجرم الحرب المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية، الذي لم يستطع ان يكتم فرحته ويستعيد الابتسامة الصفراء التي غابت عن وجهه منذ 7 اكتوبر 2023، فقام الإدلاء بدلوه في طرح الحلول لإبادة الفلسطينيين وإفراغ غزة من سكانها، وكال المديح للرئيس الأمريكي و(لفكره الثاقب)، معتبرا إياه أعظم رئيس أمريكي صديق لإسرائيل، (وربما كانت هذه العبارة الصحيحة الوحيدة التي قالها). اما الطامة الكبرى فكانت تلميح الرئيس الأمريكي بان الولايات المتحدة ستتدخل بنفسها من اجل تنفيذ هذا التهجير القسري. الامر الملفت للنظر انه لم يظهر أحد سواء داخل المؤتمر الصحفي او من المعلقين على القنوات الفضائية الأمريكية من سال ما هذا الهذيان؟ او من اعتبر ما يقوله الرئيس ضرب من ضروب الخيال، او ان يسأله بعض الاسئلة مثل من قال لك ان ابناء غزة يريدونك ان تبني لهم مدينتهم؟ وهم الذين أعادوا بأنفسهم بنائها اكثر من مرة، من قال لك ان ابناء غزة يريدون ان يتركون مدينتهم؟ وهل اشتكى الغزاويون لك او طلبوا منك ان تبحث لهم عن مناطق اخرى ليعيشوا فيها؟ وهل يوجد احد، حتى لو كان طفلا صغيرا ان يصدق ان الرئيس الامريكي قلق على الوضع غير الإنساني في غزة ومشاعره الجياشة المفاجئة تجاه ابنائها؟ وانه يريد لهم ان يعيشوا في مكان آخر أكثر امنا وراحة؟ وحدد مدة الغياب عن الديار بخمسة عشر عاما، قال انها مطلوبة لإعادة بناء القطاع. ثم اختتم حديثه بالقول ان هذه الفكرة ومضت في ذهنه في لحظة من اللحظات وطرحها على اشخاص من ادارته، كلهم وافقوا عليها واعتبروها فكرة جيدة! وبالتالي فان ومضاته الفكرية لا تحتاج إلى دراسة او مناقشة.
وان أتابع المسرحية الهزلية عادت إلى ذهني بعض الاحداث التي وقعت اثناء حملة الرئيس الانتخابية. اول حدث هو ممثلو الجاليات العربية والإسلامية الذين أعلنوا تأييدهم لانتخابه، وكتاب المقالات الذين كانوا، ومازال بعضهم، يبشرونا بان الرئيس الجديد سيكون غير ذلك الذي حكم في فترته الاولى، ووصل الأمر بالبعض ان يقولوا ان نتنياهو بالذات سيواجه اياما سوداء لان السيد ترامب لم ينس له تخليه عنه، والجالية اليهودية، في الانتخابات السابقة التي فاز فيها بايدن عليه. او اولئك الذين يحذرونا باستمرار من مغبة عدم سماع كلامه واطاعة اوامره.
لقد تعود جيلنا على مشاهدة المبشرين بالهزائم والذين يفرحون بها، وعلى الذين يعتقدون ان الولايات المتحدة تستطيع ان تفعل اي شيء، ولن ينفع معهم التذكير بما حدث في كوريا وكوبا وفيتنام والصومال والعراق وافغانستان، والان في غزة رغم كل الدعم الأمريكي لجيش الاحتلال. ولكن من المفيد تذكيرهم بين الآونة والأخرى.
أحاديث وتصرفات الرئيس الأمريكي يوم امس، واليوم الذي قبله، جعلتني أستعيد بعض الامل. فأولا هو قرر تعليق (الذي هو بمثابة تراجع اولي) اغلب القرارات التي اتخذها تجاه المكسيك وكندا وكولومبيا وحتى الصين، وعلل ذلك بانه تحدث مع قادة تلك الدول وأنهم وعدوه بضبط الحدود ومنع المهاجرين، في حين انه أعلن اثناء مسرحية توقيع القرارات (التي بدأت تكرر أكثر من اللازم)، ان المشكلة هي بالأساس تجارية وان هذه الدول، وخاصة كندا والمكسيك والصين، تستنزفان الولايات المتحدة اقتصاديا بمنتجات لا تحتاجها. ثم قال انه سيتحدث مع الرئيس الصيني لإيجاد حل للمشاكل التجارية بين البلدين، بعد ان خفض الرسوم التي اقترح فرضها على بكين. والمهم في هذه التراجعات انها جاءت بعد ان رفضت هذه الدول قراراته وتصدت له واصدرت قرارات من جانبها فرضت فيها ضرائب ورسوم على المنتجات الأمريكية. طبعا المضحك في هذا الامر ان الاقتصاديين الأمريكان أكدوا ان واردات الرسوم التي يريد ان يفرضها الرئيس الأمريكي على الدول الاخرى سوف لن تحل المشكلة المالية او العجز في الميزانية الأمريكية، بل ستزيدها، لانها لا تغطي ما سيمنحه من إعفاءات ضريبية للأغنياء وللشركات الصناعية العملاقة، وان نتائج هذه الحرب التجارية ستكون وبالا على المستهلك الأمريكي.
ما اريد ان أقوله ان الرئيس ترامب بدأ بالتراجع خطوة خطوة عما تحدث به يوم تنصيبه، سواء باقتراح تخفيض الرسوم او تعليقها لمدة معينة، والسبب هو الموقف الصلب الذي وقفته الدول التي هددها. ويوم امس أظهرت دول الاتحاد الأوربي ومعها بريطانيا النية لفعل الشيء نفسه إذا ما فرضت ضرائب امريكية عليهم.
السؤال الاهم يبقى هل ستتخذ الدول العربية موقفا رافضا مشابها لمخططات الرئيس الامريكي؟ وهل ستطالب دولة ما بعقد قمة عربية طارئة لمناقشة فكرة تهجير ابناء غزة، كمقدمة لتهجير كل الفلسطينيين، وتشجع مصر والأردن على الثبات في موقفهما؟ وهل ستصحو الجامعة العربية من سباتها وتفعل ذلك؟ ام انها قد تتخذ خطوة تُجَملُها أكثر في عين الولايات المتحدة والغرب تتمثل بطرد فلسطين منها، حتى لا يشعر السيد ترامب بالحرج عند تنفيذ مخططه.
وكما في كل مرة يبقى المعيار الاهم في كل ما يجري ويقال هو موقف الشعب الفلسطيني، الذي وحده من بيده إفشال هذه المشاريع والأفكار. ربما ابلغ رد جاء من سيدة فلسطينية فقدت ابنائها في غزة قالت فيه (نحن لدينا قماش ابيض كافي لكي نصنع أكفان لنا وليس لدينا قماش ابيضّ حتى نرفعه للاستلام). المقاومة الفلسطينية قالت كلمتها واعلنت رفضها، وكذلك ابناء غزة والضفة. واصلا ان مسيرة مئات الالوف العائدين إلى مدنهم في شمال القطاع كانت ابلغ رد لمن يريد ان يستوعب. هذا ما يجب أن نعول عليه، وهذا هو ما سيفشل كل ما يخطط لغزة ولفلسطين من مشاريع لئيمة ومعادية لكل ما هو عربي ومسلم. وابناء غزة هم كما ورد في كتاب الله الكريم: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
كاتب واكاديمي عراقي

المصدر: رأي اليوم

https://www.raialyoum.com/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d9%85%d8%a8-%d9%8a%d8%ac%d8%af-%d9%81%d9%8a-%d8%af%d9%82%d8%a7%d8%a6%d9%82-%d8%ad%d9%84%d8%a7-%d9%82%d8%af-%d9%8a%d9%82%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84/

شارك المقالة