عبد الباري عطوان
احتفالات بنيامين نتنياهو ورهطه من الصّهاينة سواءً في حُكومته أو حاضنتها الشعبيّة الدمويّة، بالانتِصارين الكبيرين، اللذين حقّقهما في كُل من سورية ولبنان بالتّخطيط المُسبق، مع حليفيه في تركيا والولايات المتحدة الأمريكيّة لم ولن تُعمّر طويلًا، فها هي المُقاومة الفِلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة تُفسد عليه هذه الاحتِفالات وتُعِدّ استقبالًا حارًّا لترامب القادم خلال أيّام وصفقة قرنه، وأسرع ممّا توقّعوا، من خلال العمليّات الفدائيّة البُطوليّة التي يُنفّذها رجالها وتُحدِث خسائر كبيرة بشريّة وماديّة ونفسيّة في العُمُق الفِلسطيني المُحتل.
عمليّة مُستوطنة “كدوميم” التي نفّذها اليوم ثلاثة من رجال المُقاومة قُرب مدينة قلقيلية في شمال الضفّة الغربيّة المُحتلّة حيث أطلقوا النّار على حافلة وسيّارات خاصّة وأسفرت عن قتل ثلاثة مُستوطنين وإصابة تسعة آخرين، أعادت البُوصلتين العربيّة والعالميّة إلى الاتّجاه الصّحيح، سياسيًّا وإعلاميًّا، أي لب القضيّة الفِلسطينيّة، وأكّدت أنّ الكيان الإسرائيلي لن ينعم بالسّلام والأمن إلّا برحيله، وأنّ مجازره في قطاع غزة واليمن وجنوب لبنان لن تمرّ دون ردٍّ انتقاميٍّ مُزَلزِلٍ، وهُنا تصحّ نظرية النّفس الطّويل.
***
أهميّة هذه العمليّة قُرب مُستوطنة “كدوميم” تأتي من كونها من أكثر المُستوطنات تحصينًا وحمايةً من قِبَل قوّات الاحتلال الإسرائيلي، ومن أبرز سكّانها بتسلئيل سموترتيش وزير الماليّة الإسرائيلي اليميني المُتطرّف، والأهم من ذلك أنّ مُنفّذي هذه العمليّة انسحبوا من المكان فورًا، ولم تستطع القوّات الإسرائيليّة المُنتشرة في المِنطقة بكثافةٍ من الوصول إليهم حتّى الآن.
أكثر ما يُزعج الإسرائيليين، حكومةً ومُستوطنين، هو نقل العمليّات الفدائيّة إلى بُيوتهم وسيّاراتهم وحافلاتهم، وخاصَّةً من أهالي الضفّة والقطاع، لأنّ هذا يعني فشلًا عسكريًّا واستخباريًّا يُصيبهم في مقتل، ويُؤكّد أنّ الدّولة باتت عاجزة كُلِّيًّا عن توفير الأمن والاستِقرار والحماية لمُستوطنيها.
نشرح أكثر ونقول إنّ حالة الجُنون الدمويّ التي يُمارسها جيش الاحتلال وتتمثّل في حرب الإبادة والتّطهير العِرقي في قطاع غزة تعود بالدّرجة الأولى إلى طُوفان الأقصى الذي نقل الحرب إلى قلب هذا الكيان شِمال القطاع، وأظهر هشاشة أمنه، والثّقوب الواسعة في مُؤسّسته الاستخباريّة التي كان يتباهى بقوّتها وتفوّقها ويُعتقد أنّها الأقوى في العالم عمليًّا، ولامتِلاكها العُقول وأحدث المَعدّات التكنولوجيّة المُتطوّرة في مجالات الرّصد خاصَّةً.
وما يُقلق هذا العدو أكثر من أيّ وقتٍ مضى حالة “التّزاوج” المُتصاعدة بين هذه العمليّات الفِلسطينيّة الداخليّة مع الهجمات الصاروخيّة الفرط صوتيّة المدعومة بالمُسيّرات القادمة من اليمن هذه الأيّام ووصولها إلى أهدافها في يافا وتل أبيب وأسدود والنقب وإصابتها بدقّةٍ نتيجة فشل كُل المنظّمات الدفاعيّة الجويّة في اعتِراضها.
الضفّة الغربيّة المُباركة “عرين الأسود والنمور” تُشكّل نقطة الضّعف الإسرائيلي وخاصرة الاحتلال الرّخوة، حيث جاء احتِلالها، وزرع أكثر من 800 ألف مُستوطن فيها، ليُعطي نتائج عكسيّة تمامًا، خاصَّةً بعد انتشار السّلاح ووصوله بسُهولةٍ إلى أيدي رجال المُقاومة من الأجيال الشبابيّة الجديدة حيث يرتقع في جيناتها منسوب الشّهادة والكرامة والثّأر، فالضفّة ليست شريطًا نحيفًا يُمكن عزله مِثل قطاع غزة الذي لا تزيد مِساحته عن 150 ميلًا مُربّعًا، وحتّى هذه فشل فيها الاحتلال، وإنّما “قارّة” بالمُقارنة (مِساحتها 5,860 كيلومترًا مُربّعًا) وبعدد سكّان أضخم (2.949 مليون)، وهُناك حالة من التّداخل اللّصيق بين المُواطنين والمُستوطنين.
***
ما لا يُدركه نتنياهو ووزير حربه يسرائيل كاتس، اللذين هدّدا بأنّهما لن يسمحا “أن يكون الواقع في يهويدا والسامرة (الضفّة) كما عليه الحال في قطاع غزة، وأن من يتبع طريق حماس في غزة ويرعى قتل اليهود سيدفع ثمنًا باهظًا”، ما لا يُدركاه أنّ تهديداتهما هذه التي سمعنا مثلها المِئات على مدى 76 عامًا، لم تَعُد تُعطي أكلها، وأنّ الشعب الفِلسطيني وأجياله الجديدة يردّ عليها عمليًّا وبالرّصاص، وليس بالسّكاكين والدّهس والاحتجاجات السّلميّة فقط، وهؤلاء هُم الذين يُجدّدون مُستقبل هذه البلاد وربّما المِنطقة بأسْرِها، وليس نتنياهو.
الجديد في الضفّة الغربيّة أنّ هُناك وحدة نضاليّة، وجهاديّة، حقيقيّة ومُتصاعدة بين جميع الفصائل الفِلسطينيّة، خاصَّةً حماس والجهاد وكتائب شُهداء الأقصى الفتحاويّة، والتّنسيق في ذروته هذه الأيّام، وثماره باتت تنعكس في هذه النّقلة النوعيّة للعمليّات الفدائيّة الآخذة في التّصاعد، والأهم من كُل ذلك أنّ هذه الفصائل لم تعد تُميّز بين السّلطة العميلة والاحتلال، بعد اختِراقها، أي السّلطة، لكُلّ الخُطوط الحُمر لمُحاولاتها الفاشلة والمُخجلة في عمالتها لاقتِحام مخيّم جنين نيابةً عن جيش الاحتلال.
إنّه التّلاحم المُقدّس بين الضفّة والقطاع الذي أصاب “إسرائيل” في مقتل، وباتَ يُشكّل تهديدًا استراتيجيًّا لأمنها واقتلاعًا لأعمدة مشروعها الاستيطاني، ويُبشّر بنهايةٍ سريعةٍ لوجوده، والأيّام المُقبلة مليئةٌ بالمُفاجآت السارّة.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم