عبد الباري عطوان
من “فواجِع” الصُّدَف أنه في الوقت الذي تُقدم فيه قوّات حرب الإبادة في قطاع غزة على حرق، وتدمير، مُستشفى الشّهيد كمال عدوان شماليّ قطاع غزة، آخِر مُنشأة صحيّة في المنطقة، تُواصل قوّات السّلطة هُجومها الدمويّ على مخيّم جنين في الضفّة الغربيّة تنفيذًا لأوامرٍ إسرائيليّة، ونيابةً عن جيش نتنياهو، وتقليصًا لخسائره البشريّة، وتعويضًا لفشله في السّيطرة على هذا المخيّم العنيد في مُقاومته للاحتلال ورفضه الاستِسلام، رُغم أكثر من 15 اجتياحًا والسّيطرة عليه من قِبَل وحَدات النّخبة في الجيش الإسرائيلي ودبّاباتها وجرّافاتها على مدى الأشهر، بل والسّنوات الماضية.
***
مُستشفى الشهيد كمال عدوان قُرب مخيّم جباليا، تعرّض لواحدةٍ من أكبر المجازر في تاريخ المُنشآت الصحيّة في العالمِ بأسْره، حيث أقدمت قوّات الاحتلال على تفريغه من كُلّ المُصابين والمرضى، والقذف بهم إلى الشّارع، ثمّ قصفه بالمدفعيّة والصّواريخ، وإحراقه بالكامل، بعد حصارٍ تجويعيٍّ منع من خلاله وصول كُلّ الأدوية والأغذية وحتّى الماء إلى مرضاه وكادره الطبّي البطل.
العديد من أفراد الطّاقم الطبي نساء ورجال برئاسة الدكتور البطل حسام أبو صفية الذي رفض مُغادرته (رُغم إصابته برصاص الاحتلال، واستشهاد ابنه إبراهيم) استشهدوا إمّا حرقًا، أو بالقصف الصاروخيّ، ومن تبقّى منهم على قيد الحياة مُصابًا بالجُروح والحُروق، ما زال مصيره مجهولًا، وهُناك روايات تقول إنهم احتَرقوا وتفحّموا، أو ما زالوا تحت الأنقاض أحياءً في النّزاع الأخير أو شُهداء.
تحيّة من القلب إلى أهلنا في شِمال قطاع غزة الذين استبسلوا وما زالوا في الصّمود، وقاوموا كُلّ الضّغوط الإجراميّة الإسرائيليّة لترحيلهم وتهجيرهم، واختاروا الشّهادة على الرّحيل، وكانَ مُستشفى الشّهيد كمال عدوان، آخِر المُستشفيات في المنطقة، وكادره الصحّي هُم أبرز رموز هذا الموقف البُطولي المُشرّف في الصّمود والمُقاومة.
ما يُؤلمنا أكثر من صُور الشّهداء ضحايا هذه الجريمة الإسرائيليّة، وخاصَّةً من الأطفال الرّضّع والنّساء والشّيوخ هو الموقف النّازي الأمريكي الذي أيّد هذه المجزرة الإسرائيليّة، وتبنّى الرّواية الإسرائيليّة الفاجرة في كذبها التي تقول إنّ خلايا “إرهابيّة” مِن حركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي” تتّخذ من المُستشفى دِرعًا واقيًا لها، وهي الرّواية نفسها الكاذبة التي تردّدت أثناء الهُجوم على مُستشفى الشّفاء، وذبح الأطفال أثناء عمليّة “طُوفان الأقصى” في مُستوطنات غلاف غزة.
جميع القوانين والأعراف الدوليّة، وحتّى تلك المُتّبعة في العُصور الحجريّة تمنع وتُجرّم قصف المُستشفيات، والمسّ بالمرضى والجرحى والأطبّاء والممرّضات، ولكنّ أمريكا زعيمة ما يُسمّى بالعالم الحُر والتي تصف نفسها بالمُدافع “الشّرس” عن حُقوق الإنسان تضع حرب الإبادة الإسرائيليّة في قطاع غزة فوق كُل القوانين والمعايير الإنسانيّة والأخلاقيّة بكلّ وقاحةٍ وغطرسة.
***
عارٌ على السُّلطة ولا نقول الفِلسطينيّة، وجِنرالاتها، وقوّات أمنها، بل ورئيسها، أن يتحوّلوا إلى أدوات لحماية من يرتكب هذه المجازر في القطاع، واقتحام مخيّم الشّرف والعُروبة في جنين، في مُحاولةٍ مُعيبةٍ لإرضاء القتلة والجزّارين، والقيام بالدّور الذي فشل فيه الجيش الإسرائيلي في القضاء على مُجاهدي كتائب المُقاومة التي ركّعت هذا الجيش، وأدّبته، وكبّدته وما زالت خسائر ضخمة، بشريّة ومعنويّة، وأبقت هذا المخيّم مرفوع الرأس شامخًا يُجسّد عُنوانًا للوطنيّة، ورمزًا للشّهادة، والصّمود والتّضحية بأنواعها كافّة، فمقاومة الاحتلال هي قلب القانون وليس الخروج عنه مثلما تدعي السلطة لتبرير هجومها على مخيم جنين.
هذا الشّعب العربي الفِلسطيني المُقاوم في القطاع والضفّة الذي يُقاوم الاجتياح الإسرائيلي وحرب الإبادة، والتّطهير العِرقي، بأشكالهما كافّة على مدى أكثر من 15 شهرًا، واجه خلالها القتل والحرق والتّجويع والتّعطيش، وألحقت مُقاومته خسائر غير مسبوقة بالعدو قاتل الأطفال والرضّع، هذا الشّعب لن يُهزَم مُطلقًا، وسيكون النّصر حليفه بإذن الله.
فعندما يلجأ هذا الشّعب المُؤمن إلى السّكاكين والسّلاح الأبيض والعمليّات الاستشهاديّة نتيجة شح الذّخائر والمعدّات العسكريّة، بسبب تواطُؤ الحُكومات العربيّة مع الجزّارين القتلة، وإحكام إغلاق الحُدود والمعابر والأنفاق والبِحار ويقصف اليوم بصواريخه القدس المُحتلّة، فإنّه يُسَطّر أعظم الملاحم في التّاريخ في المُقاومة والصّمود وسيُحرّر كُلّ أرضه، ونُكرّرها، كُلّ أرضه.
ختامًا أُعلن من هذا المنبر الذي أتشرّف برئاسة تحريره الاستِقالة من المجلس الوطني الفِلسطيني الذي أحمل عُضويّته على قائمة المُستقلّين مُنذ عام 1989، والذي قاطعت جميع اجتماعاته الأخيرة، فلا تُشرّفني هذه العُضويّة في هذا المجلس الذي تُسيطر عليه هذه السُّلطة التي ليس لها أيّ علاقة بمُنظّمة التّحرير، ولا إرْث الشّعب الفِلسطيني المُقاوم المُشرّف.
المصدر: رأي اليوم