:بالتزامن مع استعادة الطاقم الإسرائيلي المفاوض من الدوحة، وبقاء الصفقة عالقة، بل معطلة عمداً، قالت مصادر في إسرائيل إن جيش الاحتلال استَكمل إدخال قوات المشاة والمدرعات، استعداداً لتوسيع الاجتياح ضمن حملة “عربات جدعون”.
بخلاف ما يُقال على لسان كثير من المحللين العرب للشؤون الإسرائيلية، فإن هذا التهديد بـ”عربات جدعون” ليس مجرد حرب نفسية، أو ضغوط فقط على “حماس” كي تقبل بإملاءات الاحتلال، بل هي خطة خطيرة تنتهك الأعراف والقوانين، للمستوى السياسي، تقضي باستكمال احتلال القطاع دون اكتراث بضغوط داخلية وخارجية، لأسباب تتجاوز الغايات والسجالات السياسية الداخلية، وترتبط برؤية “أرض إسرائيل الكاملة” وحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني.
التهديد بـ”عربات جدعون” ليس مجرد حرب نفسية، أو ضغوط فقط على “حماس” كي تقبل بإملاءات الاحتلال، بل خطة خطيرة تنتهك الأعراف والقوانين
رسمياً قيل إن “عربات جدعون” هي خطة عسكرية أعدها الجيش بقيادة قائده الجديد زامير، وصادقت عليها الحكومة، لكن الحقيقة معكوسة. طبقاً لتسريبات إسرائيلية، فإن المستوى السياسي فرض على المستوى العسكري والأمني مواصلة الحرب، ولذا بادر الجيش لوضع هذه الخطة الرامية لتحقيق عدة غايات، منها: سيطرة عسكرية ميدانية على 70% من القطاع، وحشر الفلسطينيين في ما يتبقى منها لإنتاج “غزة الصغرى”، تفكيك سلطة حركة “حماس”، استعادة الرهائن الإسرائيليين، إعادة رسم الخريطة الأمنية والديموغرافية للقطاع بما يخدم مصالح إسرائيل الإستراتيجية.
أما التسمية، فهي توراتية ومستوحاة من أساطير الحرب التاريخية اليهودية، فجدعون هو قائد توراتي من سبط منشي، وردت قصته في سفر القضاة، حيث قاد 300 من صفوة المقاتلين لهزيمة جيش المديانيين الضخم بأمر إلهي وخطة عسكرية ذكية. وسبق أن استخدمت العصابات الصهيونية ذات التسمية تماماً عندما احتلت، في مثل هذه الأيام من أيار 1948، مدينة بيسان، وتوظّف إسرائيل هذه الأساطير التوراتية والتسميات الرمزية لحملاتها العسكرية منذ نكبة عام 1948 بهدف الحشد والتعبئة قبيل مشاريع التوسع والطرد والاستيطان، في إطار سردية مقدسة.
الصمت علامة الرضا
لم تكن هذه الحرب المتوحشة على غزة، بما فيها من مذابح وجرائم، لتستمر لولا أن السواد الأعظم من الإسرائيليين يؤيدونها بصمتهم وبقولهم وبعدم مشاركتهم في الاحتجاجات بأعداد كبيرة من أجل وقفها.
منذ شهور، تفيد استطلاعات رأي متتالية أن أغلبية الإسرائيليين يرغبون بإنهاء الحرب ويتهمونها بأنها باتت سياسية في دوافعها وغاياتها، بيد أنهم يقصدون إتمام صفقة الآن لتأمين عودة الأسرى، ومن ثم مواصلة حرب التدمير والتهجير، وهذا يفسر التناقض الذي يبدو للوهلة الأولى بين هذه الاستطلاعات والاستطلاع الكبير الجديد الذي يظهر أن أربعة من كل خمسة إسرائيليين يؤيدون الترانسفير، ترحيل أهالي غزة. هذا الحلم، الذي رافق انطلاق المشروع الصهيوني، راود أوساطاً إسرائيلية غير قليلة وتبنّته مجموعة من الحاخامات، ذهب بعضهم لرسمه كأفكار ومخططات، كما فعل يتسحاق غينتزبورغ، الحاخام المستوطن المتشدد والأب الروحي لـ”شبيبة التلال”، يتحقق الآن داخل قطاع غزة.
منذ مشاركته، قبل عقدين ونيف، في إصدار الكتاب الإجرامي “الرجل المبارك” في مديح جزار مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، يدعو باروخ غولدشتاين لقتل الأطفال والنساء الأغيار. وهذا جزء من عملية تطبيع وتسويق فكرة حرب إبادة الفلسطينيين، والقيام بتطهير عرقي من البحر للنهر. وطبقاً لصحيفة “هآرتس” اليوم، فإن يتسحاق غينتزبورغ، ولد في الولايات المتحدة عام 1944، ويقيم اليوم في مستوطنة كفار حباد، وهو الحاخام الأهم لتيار الصهيونية الدينية، وفي فكره وفتاواه يدمج بين توجهات دينية غيبية وأفكار قومجية، مستلهماً تجربة حاخام سبقه هو الحاخام كوك.
منذ سنوات، هو حاخام الحركة الإرهابية “شبيبة التلال” التي تعيث فساداً في الضفة الغربية المحتلة، كما حصل في قرية بروقين قضاء سلفيت، أمس، ومنها خرج وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
وبخلاف حاخامات المستوطنين الآخرين، يرى يتسحاق غينتزبورغ أن الفلسطينيين لا يستحقون حتى مكانة المقيم، وأن سيطرتهم على أي بقعة من البلاد هي بمثابة كفر وشرك. وتنم هذه الأفكار عن فكرة التفوق العرقي اليهودي في “أرض إسرائيل” (فلسطين من البحر للنهر)، ويقوم يتسحاق غينتزبورغ وأمثاله بالترويج المنهجي لها بوسائل شتى، أبرزها خطبة دينية تدعى “حان الوقت لفتح حبة الجوز”، الرامية لتأليف القلوب وتطبيع فكرة القتل الجماعي للفلسطينيين.
وتشبّه هذه الخطة الدموية البلاد بحبة جوز لها أربع قشور: الثمرة ترمز لـ”شعب إسرائيل”، وطبقات القشرة الثلاث هي دولة إسرائيل العلمانية ومؤسساتها: الإعلام، جهاز القانون، ومؤسسات السلطة كافة، فاسدة ودنسة ومحظورة وينبغي تخريبها من الأساس. أما القشرة الرابعة فهي الجيش، التي يمكن إصلاحها، لكن يجب مكافحة القيم المشوهة التي سرت في هذه القشرة الرابعة.
إسرائيل تريد التهجير
وبموجب العقيدة اليهودية الغيبية هذه، فإن “طبقات القشرة” هي قمامة روحانية انتشرت في العالم خلال خلقه، وترمز للشر المستطير. ووفق تحقيق “هآرتس”، فإنه طبقاً ليتسحاق غينتزبورغ، كان الشعب اليهودي بحاجة لهذه الطبقات من القشور كي ينمو ويتطور، لكن “القشرة الآن، بعد سنوات من الحراسة والمحافظة، باتت عاملاً مزعجاً يحول دون تطور اليهود في بلادهم”.
ومن هنا، يستنتج يتسحاق غينتزبورغ أنه يجب كسر طبقات قشرة الجوز من أجل استحضار المسيح المنتظر في عصرنا. وبنظر هذه الحاخامية الاستيطانية الدموية، فإن وسائل الإعلام العلمانية تنتج أجواء تقول إن الحديث باسم التوراة هو حديث متقادم بدائي، أما جهاز القانون والقضاء فيسعى لتحفيز الانغماس وطمس الفوارق بين اليهود وبقية الشعوب، بينما تتسبب مضامين التعليم بفرض قيم غريبة على الناشئة. وهكذا، الكنيست والحكومة يخدمان مصالح أجنبية وغريبة عن “شعب إسرائيل”.
وترى “هآرتس” في تحقيقها بعنوان “إسرائيل تريد التهجير” أن كسر طبقات قشرة الجوز يقترب من الاستكمال، مع اندفاع الانقلاب على النظام السياسي، ومع تحطيم جهاز التعليم، وتطهير أجزاء واسعة من الإعلام من المهنية.
وتقول “هآرتس” إن الجيش، وفق هذه الرؤية الحاخامية الغيبية المتشددة، هو طبقة القشرة الأهم والأكثر جدوى، فهي “ليّنة وجيدة للأكل”، اختراقها وكسرها وتحرير المادة الإلهية المطبوع فيها، هي نوع من مسيرة “يوم القيامة”، منوهة أن هذه خطوة تتم على يد من يسميه يتسحاق غينتزبورغ “كاسر الجوز”: يهودي بسيط يعتمد على غريزة الانتقام، محرّر من قيود القوانين المعطلة لروح الجيش الإسرائيلي، القيم الغريبة المعروفة بـ”طهارة السلاح”، وتحول دون قيام الجنود بالعمل وفق الأمر الإلهي “من جاء ليقتلك انهض واقتله”. هذا الكاسر للجوز هو من ينتقم من الأغيار، عرب البلاد، دون معيقات أخلاقية، على غرار ما فعله باروخ غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
هآرتس: “كاسر الجوز هو يهودي بسيط يعتمد على غريزة الانتقام، محرّر من قيود القوانين المعطّلة لروح الجيش الإسرائيلي”
وكانت هذه الحاخامية تعمل بشكل منظّم على تأليف قلوب الإسرائيليين لهذه الفكرة الإجرامية، وتنتظر فرصة تاريخية مواتية، فوجدتها في السابع من أكتوبر، كما كتب يتسحاق غينتزبورغ بعد أيام من الحرب، داعياً لمحو ذكر الفلسطينيين بشكل تام، والتضحية بالأسرى اليهود على الطريق من خلال رفض مطلق لفكرة الصفقة، معتبراً أن هذا ثمن معقول لـ”النصر المطلق”، وهو مصطلح يتبناه يتسحاق غينتزبورغ أيضاً.
الصفقة عالقة وطريق مسدود
تزامناً مع المذبحة المستمرة في القطاع، دون اكتراث بالانتقادات الدولية المحصورة في دائرة الأقوال دون عقوبات، أعاد نتنياهو الطاقم المفاوض من الدوحة، فيما التقى وزير الشؤون الإستراتيجية في حكومة الاحتلال، درمر، بالمبعوث الأمريكي ويتكوف في واشنطن، للتداول في الشأن الإيراني بالأساس.
في المقابل، تستمر المظاهرات في تل أبيب دون جدوى، فيما تصعّد عائلات المحتجزين اللهجة ضد حكومة نتنياهو بنعتها “حكومة الشباشب”، في تكاتب ساخر مع خطاب نتنياهو قبل أيام، وفيه حاول اتهام الجيش بشكل غير مباشر، بالقول إن “حماس” هاجمتنا بـ”الشباشب والبنادق فقط”.
وبات أكثر وضوحاً اليوم أن مفتاح الصفقة ووقف الحرب، كما في التصعيد المحتمل ضد إيران، موجود بيد ترامب، خاصة إذا ما طالبته الدول العربية والغربية بذلك بشكل حقيقي وجاد.
المصدر: القدس العربي