You are currently viewing انهيار الدولار: الأزمة لم تعد مجرد نظرية

انهيار الدولار: الأزمة لم تعد مجرد نظرية

لطالما كانت النظرية الاقتصادية التقليدية تشير إلى أن فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية على الواردات سيؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، بفعل انخفاض الطلب على العملات الأجنبية وتوقعات التشديد النقدي. لكن ما تشهده الأسواق مؤخرًا يقلب هذه الفرضيات رأسًا على عقب، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الدولار كعملة احتياطية عالمية.

 جاياكومار : بدأ المستثمرون يشككون في الدور التقليدي للدولار وسندات الخزانة الأمريكية كركائز للاستقرار المالي، نتيجة للسياسات المتقلبة وغير المتوقعة التي تتبعها الإدارة الأمريكية، إلى جانب التهديدات لاستقلالية المؤسسات الاقتصادية

وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور فيفيكاناند جاياكومار، أستاذ الاقتصاد المشارك في جامعة تامبا، أن الأزمة الحالية لم تعد مجرد فرضية أكاديمية، بل واقع ملموس يهدد موقع الدولار في النظام المالي العالمي.

ويشرح جاياكومار أن التعريفات الجمركية، بحسب الرؤية التقليدية، تقلل من حجم الواردات عبر رفع تكلفتها، ما يحدّ من الطلب على العملات الأجنبية اللازمة لسداد قيمة تلك السلع، ويقود إلى دعم الدولار. كما أن هذه الرسوم ترفع الأسعار المحلية، ما يزيد من توقعات التضخم، وبالتالي يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى تبني سياسة نقدية أكثر تشددًا مقارنة بالبنوك المركزية الأخرى، وهو ما يعزز قيمة العملة الأمريكية.

وفوق ذلك، يُفترض أن الدولار، باعتباره “عملة الملاذ الآمن”، يستفيد خلال فترات عدم اليقين من تدفقات استثمارية نحو سندات الخزانة الأمريكية، التي تُعدّ من أكثر الأصول أمانًا. لكن الواقع خالف كل هذه التوقعات.

فمنذ ذروته الأخيرة في يناير/ كانون الثاني، هبط مؤشر الدولار الأمريكي (DXY) إلى أدنى مستوى له خلال ثلاث سنوات، رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية والمخاطر الاقتصادية. وعلى الرغم من أن السياسات التجارية التي انتهجها الرئيس دونالد ترامب خلقت حالة من الفوضى، وتسببت في مخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية، فإن الدولار الأمريكي فقد الكثير من جاذبيته كعملة ملاذ آمن.

جاياكومار: ارتفاع أسعار الذهب بشكل غير مسبوق يشير إلى تصاعد القلق العالمي من فقدان الدولار لمكانته

ويضيف جاياكومار في مقال نشرته صحيفة “ذا هيل” أنه “لأول مرة في التاريخ الحديث، بدأ المستثمرون يشككون في الدور التقليدي للدولار وسندات الخزانة الأمريكية كركائز للاستقرار المالي، نتيجة للسياسات المتقلبة وغير المتوقعة التي تتبعها الإدارة الأمريكية، إلى جانب التهديدات لاستقلالية المؤسسات الاقتصادية“.

وتراجعت السردية التي تمحورت حول “الاستثنائية الأمريكية” والنمو المدفوع بالتخفيضات الضريبية، ليحل محلها قلق حقيقي من الركود الاقتصادي، وربما حتى “الركود التضخمي” – وهو مزيج قاتل من النمو البطيء والتضخم المرتفع – ما يقلص شهية المستثمرين نحو الأصول الأمريكية.

ويشير إلى أن بيانات الخزانة الأمريكية تبرز حجم التحدي: ففي عام 2024، تجاوزت مدفوعات الفائدة على الدين العام (949 مليار دولار) الإنفاق الدفاعي (826 مليار دولار)، في مؤشر على تصاعد الضغوط المالية. ومع تزايد الحديث عن القمع المالي، تتجه الأنظار إلى مدى قدرة الإدارة الحالية على ضبط السياسات دون الإضرار بجاذبية سندات الخزانة.

وفي ظل هذه الظروف، اتسعت الفجوة بين عوائد السندات الأمريكية ونظيرتها الأوروبية، مثل سندات البوند الألمانية، بينما سجل اليورو والين الياباني مكاسب أمام الدولار، في مشهد يعكس تحوّلًا في سلوك المستثمرين. وارتفعت أسعار الذهب بشكل غير مسبوق، متجاوزة 3500 دولار للأونصة، في إشارة إلى تصاعد القلق العالمي من فقدان الدولار لمكانته.

فهل نحن أمام أزمة مؤقتة؟ أم بداية تحوّل هيكلي في النظام المالي العالمي؟

يشير جاياكومار إلى أن الدولار عادة ما يمر بدورات صعود وهبوط تستمر لسنوات، وقد تكون هذه بداية مرحلة هبوط طويلة جديدة، مدفوعة بتغيرات هيكلية في النظام النقدي الدولي.

ورغم ما يتمتع به الدولار من مزايا الشبكة والهيمنة المؤسساتية، يلفت جاياكومار إلى أن “الأبحاث الاقتصادية تُظهر أن الدولار لم يكن محصنًا في الماضي، إذ إن استبداله بالجنيه الإسترليني كعملة احتياطية حدث في وقت أبكر مما يُعتقد، بفعل تعميق الأسواق الأمريكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي”.

جاياكومار: إدارة ترامب تمارس لعبة خطيرة قد تُعجّل بانهيار الثقة في الدولار

ويحذر جاياكومار من أن توسّع أوروبا في إصدار سندات موحدة مقوّمة باليورو، إلى جانب تحرير الصين لحساب رأس المال وتعزيز انفتاحها المالي، قد يُعجّل بانتقال النظام المالي العالمي من نموذج أحادي القطب إلى نموذج متعدد الأقطاب. كما أن جهود مجموعة “بريكس” والاقتصادات الناشئة الأخرى تهدف إلى كسر الاعتماد المفرط على الدولار، في مسعى للتحرر من هيمنته على النظام المالي العالمي.

وفي ختام تحليله، يشدد جاياكومار على أن الحفاظ على موقع الدولار كعملة مهيمنة يتطلب إجراءات حاسمة، قائلًا: “بدلًا من تعميق التحالفات وضمان استقرار النظام المالي، تمارس إدارة ترامب لعبة خطيرة قد تُعجّل بانهيار الثقة في الدولار”.

وبينما يترنح الدولار وسط هذه التحولات العميقة، بات على المستثمرين وصنّاع السياسات التعامل مع الأزمة كاحتمال واقعي، لا كمجرد نظرية اقتصادية.

المصدر: القدس العربي

انهيار الدولار: الأزمة لم تعد مجرد نظرية

شارك المقالة