العمود الثامن قل تاريخيّة ولا تقل وطنيّة علي حسين
كرّس مصطفى جواد حياته من أجل غنى اللغة العربية التي تعمّق فيها ، حتى قال عنه مجمع اللغة العربية يؤبّنه :" كان عالماً فذّاً وذوّاقاً للّغة وحريصاً على التعمّق فيها وإغنائها " وكان دائم الرد على كل من يحاول أن يحطم أو يتجاهل معشوقته العربية ، وذات يوم اختلف مع الشيخ جلال الحنفي حول أصل كلمة " جوبي ،" فكتب الحنفي مقالاً ساخراً بعنوان " قل جوبي ولا تقل شوبي " يحاول فيه أن يقلّد طريقة مصطفى جواد في الحديث ، وعندما أطلّ العلّامة جواد بعد أُسبوع من على شاشة التلفزيون ، أراد مقدّم البرنامج أن يسأله عن مقال الحنفي ، فقال مصطفى جواد بصوته الهادئ ، سنتحدّث اليوم عن المبني للمجهول ، فعرف الحنفي أنّ العلّامة ، مغتاظ ويريد أن يتجاهله فذهب إليه في اليوم التالي ، وهو يضحك قائلا : يامولانا حوّلتني من فاعل معلوم إلى فاعل مجهول بفرّة سبحة!
لا أريد أن أصبح " برأسكم " ضليعاً في شؤون اللغة العربية وخفاياها ، ونحن نحتفل هذه الساعات بيومها العالمي ، فأنا لا أزال أخلط بين المعلوم والمجهول ، مثل معظم مسؤولينا الذين يبرعون في تسجيل كلّ كارثة تصيب هذا الشعب ضد السيد مجهول ، لا جديد في الأمر سوى اختلاف صفة المجهول ، مرّة سيارات مفخّخة لاتُرى بالعين المجرّدة ، ومرّات أخرى مليارات نُهبت وحُوّلت إلى بنوك دول الجوار ، فكان الإجراء هذه المرّة معلوماً " شدّوا الأحزمة لا رفاهية ولا تنمية ولامشاريع ،أما الخدمات فلا تزال في المجهول .
منذ أن اعترف إفلاطون أنّ العدالة هي حكم الأكثر كفاءة ، والناس يبحثون عن أصحاب الكفاءات الذين يملأون الأرض منجزاً وصدقاً ، وكما أخبرنا صاحب الجمهورية يوماً ، أن الدولة وجدت لتوفير حياة مرفّهة ، أصر بناة البلدان على انه لن تكون هناك حياة كريمة ، مالم يتوفر لها رجال شجعان .
وتذكر جنابك أنّ كلمة شجعان حرّفناها لغوياً ، فاعتبرنا السارق شجاعاً والنصّاب شجاعاً ، والقاتل شجاعاً ، ولانزال نستخدم كلمة شقي للمديح والإطراء ، حتى أننا قبلنا أن يخرج علينا أحد الشقاوات من أعضاء ائتلاف دولة القانون ليقول : إن"السُّنّة المتواجدين في الخارج كلّهم إرهابيون وقتلة ويتآمرون ضدّ العراق" .
ولهذا فلا أعتقد أنّ التسوية التي كانت وطنية وتحولت إلى تاريخية ، ستحلّ مشاكل هذه البلاد مادام هناك من يصرّ على مواصلة ذلك الخطاب المحرّض على الفوضى ، هذه الفوضى التي تجعل من اجتماعات القادة مجرّد دراما اجتماعية تنتهي بوعود وأمنيات ، وصور فوتوغرافيّة باسمة .
سيقضي ساساتنا جلّ وقتهم في التحايل على اللّغة العربيّة ، ونراهم محتارين في كتابة التسوية الوطنية أم التاريخية ، ولايسألون لماذا اعتمدت سنغافورة على الكفاءات واعتمدنا الجهل ! لأنّ الشعب السنغافوري لم يكن عنده مقدّسون يستعبدون الديمقراطية .
المدى |