عبد الباري عطوان
الانتصار الأكبر الذي أفرزته الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة الأمريكيّة التي جرت يوم الثلاثاء الماضي ليس فوز ترامب، وإنّما “تأديب” الكتلة الانتخابيّة العربيّة والإسلاميّة للحزب الديمقراطيّ، وهزيمة مُرشّحته كامالا هاريس، وإذلال جو بايدن الذي أثبت عمليًّا إنّه صهيوني أكثر من الصّهاينة أنفسهم، وحزبه الديمقراطيّ لا يقلّ ديكتاتوريّةً عن عُتاةِ الديكتاتوريين في التّاريخين الحديث والقديم.
نشرح أكثر ونقول إنّ صُمود أهلنا في قطاع غزة، وتقديم أكثر من 43 ألف شهيد، واستمرارهم في رفض الاستسلام ودعم المُقاومة، هذا الصّمود هو الذي فرض نفسه على الانتخابات الأمريكيّة، ولعب دورًا كبيرًا في تحديد نتائجها وللمرّة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، تمامًا مِثل حرب فيتنام.
مُعاقبة بايدن ووريثته كامالا هاريس، وحزبه الديمقراطيّ الدّاعم لحرب الإبادة، وإسقاطه في هذه الانتخابات، كلّها مُؤشّرات تُؤكّد بقوّةٍ ردّ الاعتبار للناخب العربيّ والإسلاميّ في أمريكا، الذي ظلّ مُهمَلًا ومُحتَقرًا في نظر الحزبين الرئيسيين (الحمار والفيل) ومُرشّحيهما في الانتخابات بشقّيها الرئاسيّ والتشريعيّ.
***
السيّدة هاريس لم تُسعفها أنوثتها، ولا ابتِسامتها العريضة البلهاء، ولا أهميّة حزبها وإرثه السياسيّ، وخسرت الانتخابات للخصم (ترامب) الذي لم يكن مقبولًا، إنْ لم يكن مكروهًا، من قِبَل العرب والمُسلمين وحُلفائهم الأفارقة، فنُزول هذا التّحالف العربيّ الإسلاميّ الإفريقيّ إلى الميدان ومعهم الشّرفاء الأمريكان الآخرين أبرزهم كقوّةٍ انتخابيّة فاعلة ومُؤثّرة لا يُمكن تجاهلها في المُستقبل.
الديمقراطيّون الذين فازوا دائمًا بمُعظم أصوات العرب والمُسلمين في الانتخابات ردّوا الجميل بالإهمال والنّكران والاحتِقار لهم، كقوّة انتخابيّة عِرقيّة ودينيّة، وكافأوهم بتبنّي حرب الإبادة والتّطهير العِرقي ودعمهما، ويكفي الإشارة إلى أنّ السيّدة هاريس رفضت أنْ يعتلي أي عربي أو مُسلم منصّة المُؤتمر العام لحزبها الديمقراطي في شهر آب (أغسطس) وإلقاء كلمة عن المجازر الإسرائيليّة بحقّ الأطفال وأبناء عِرقها من النّساء، بينما لم تتردّد في السّماح لإسرائيليّة بالحديث عن الرّهائن الإسرائيليين و”طُوفان الأقصى”، والدّفاع بالتّالي عن مجازر الأطفال.
إذا عُدنا إلى الوراء قليلًا، للتّذكير بأمثلةٍ أُخرى مُماثلة لهذا الاحتِقار الذي تحظى به الكُتلة العربيّة والإسلاميّة الأمريكيّة من قِبَل الحزب الديمقراطي، فإنّ هُناك تاريخًا حافلًا في هذا المِضمار، ففي عام 1984 أعادَ المرشّح الديمقراطي والتر مونديل تبرّعات ماليّة من النّاخبين العرب، حينما كان خصمه رونالدو ريغان الجمهوري، وفي عام 1988 رفض المرشّح الديمقراطي مايكل دو كاكيس تأييد ومُساندة مجموعة أمريكيّة عربيّة وابتعد عنها وكأنّها ناقةٌ جرباء.
النّاخبون العرب والمُسلمون تعلّموا الدّرس جيّدًا، وقرّر مُعظمهم الثّورة والانقلاب على هذا التّقليد في دعم حزب لا يستحق، وعدم التّصويت في الانتخابات الأخيرة لهاريس، وخاصَّةً في ميتشيغان أحد أكبر مراكز قوّتهم، وإسقاطها، وإنجاح النّائبتين الديمقراطيّتين إلهان عمر ورشيدة طليب في رسالةِ تحدٍّ غير مسبوقة للمؤسّسة السياسيّة الأمريكيّة، ففائدة تثبيت هذه السّابقة وتطويرها أهم بكثير من فوز ترامب على المدى البعيد.
انتقادنا للحزب الديمقراطي لا يعني مُطلقًا أنّنا نميل أو نُؤيّد ترامب وحزبه الجمهوري، فنحنُ نعرف سياساته، وعدائه للعرب والمُسلمين، ودعمه للسّياسات العُنصريّة الإجراميّة التوسّعيّة للعدو الإسرائيلي، رُغم أنّنا نعترف بأنّ انسِحابه من الاتّفاق النووي الإيراني بضَغطٍ من نتنياهو كانَ أجمل وأغلى هديّة لمحور المُقاومة وأذرعه العربيّة، وإعفاء الدّولة الإيرانيّة المُسلمة من أغلال الاتّفاق، التي كانت تحول دون إنتاجها رؤوسًا نوويّةً إسلاميّةً مُقاومةً للتغوّل الغربيّ والاحتلال الإسرائيلي.
***
نستغرب هذا الاهتمام العربيّ بالانتخابات التي تُجرى في دولةٍ إرهابيّةٍ تدعم حُروب الإبادة الإسرائيليّة، والرّهان على هذا الحزب أو ذاك، وإعجاب البعض بهذه التّجربة الديمقراطيّة، فهذه الديمقراطيّة التي تُوفّر الإمدادات العسكريّة الضّخمة، وأحدث الطّائرات والصّواريخ، وأكثر القنابل فتْكًا، و25 مِليارًا على دُفعتين لدولة الاحتلال لتصعيد مجازرها، هذه لا يُمكن أن تكون ديمقراطيّة، فالديمقراطيّة التي لا تعرف الإنسانيّة ولا تحترم حُقوق الإنسان، ويتلذّذ أصحابها بمُراقبة تقطيع أشلاء أكثر من 20 ألف طفل ورضيع ويقولون هل من مزيد، ليست ديمقراطيّة وإنّما أكثر ديكتاتوريّة من عُتاةِ الدّيكتاتوريين.
نختم هذا المقال بالقول إنّ المُقاومة الأفغانيّة وحاضنتها الشعبيّة لم تهتم مُطلقًا بالانتخابات الأمريكيّة ولا بمُرشّحيها، ولم تُراهن على أي منهم، ولهذا حقّقت انتصارها الكبير، وطردت قوّات الاحتلال الأمريكي، وهزمتها شرّ هزيمة، وشاهدنا أبشع صُور هزيمتها المُذلّة في مطار كابول، والشّيء نفسه يُقال عن المُقاومتين العِراقيّة والفيتناميّة، ولا نستبعد أنْ يتكرّر المشهد نفسه في تل أبيب وعواصم الدّول التي تحتضن القواعد العسكريّة الأمريكيّة وقريبًا جدًّا بإذنِ الله.
المصدر: رأي اليوم
publisher: Raialyoum