عبد الباري عطوان
احتضنت العاصمة الأردنيّة الشتويّة (العقبة) في الأيّام الثلاثية الماضية اجتماعًا جرى ترتيبه على عجل، لسبعة وزراء خارجيّة عرب لكُلٍّ من الأردن والعِراق والسعوديّة ومِصر والإمارات والبحرين وقطر، بصفتها الدّول “المُؤثّرة والمُتأثّرة” بتطوّرات الأوضاع في سورية، ووضع استراتيجيّة مُتّفق عليها، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، لكيفيّة التّعاطي معها من حيثُ تطويق أيّ امتدادٍ لها، و”طفحان” أخطارها إلى دول الجوار والمِنطقة عُمومًا.
كان لافتًا أنّ هذه الاجتماعات جاءت بدعوةٍ من أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي، وبمُشاركة وزراء خارجيّة تركيا وفرنسا والاتّحاد الأوروبي، وكانَ الغائبُ الوحيد وربّما الأهم “جسمانيًّا” عن هذا الاجتماع جدعون ساعر وزير الخارجيّة الإسرائيلي الذي شارك كيانه بفاعليّة، تخطيطًا وتنفيذًا، للعُدوان الثلاثي على سورية في إسقاط النظام السوري بطريقةٍ مُذلّةٍ ومُهينة، واستِبداله بتحالف فصائل إسلاميّة مُسلّحة بدعمٍ مُباشرٍ من تركيا ودول عربيّة أُخرى برعايةٍ أمريكيّة.
الأمر المُؤكّد أنّ بلينكن مُهندس هذا الاجتماع، والعرّاب الرئيسيّ له، ملأ الفراغ الذي نجم عن غيابِ ساعر، خاصَّةً بعد اعتِرافه بولائه الصّهيوني علانية أثناء زيارته الأولى كوزيرِ خارجيّةٍ لأمريكا، واعترافه لأوّل مرّة أنّ بلاده، وربّما هو شخصيًّا كانَ على اتّصالٍ مُباشرٍ بهيئة تحرير الشام.
***
قبل الانتقال إلى إجراءِ قراءةٍ مُتعمّقةٍ للبيان الختاميّ الذي صدر عن اجتماع وزراء خارجيّة الدول العربيّة السّبع، رُغم إيماننا بأنّه لا يقول واحدا في المئة من الحقيقة، نُريد الإشارة إلى أنّ هذه الدّول العربيّة السّبع التي قادت خطوات إخراج سورية من الجامعة العربيّة وفرض الحِصار عليها، وهي أحد أبرز الدّول المُؤسّسة لها، موّلت بشكلٍ مُباشر أو غير مُباشر، العمليّات العسكريّة التي قامت بها جماعات مُسلّحة بهدف إطاحة النّظام قبل 13 عامًا، بدعمٍ أمريكيّ، وشاركت بفاعليّة في الحصار الخانق الذي أدّى إلى تجويع الشعب السوري، وتقويض حُكومته من الدّاخل، بتكرار السّيناريو نفسه الذي جرى تطبيقه في العراق وانتهت باحتِلاله بعد غزو أمريكا وحُلفاؤها عام 2003، مع فارقٍ أساسيٍّ وهو توكيل أمريكا هذه المهمّة إلى جماعاتٍ إسلاميّةٍ مُسلّحة واكتفائها باحتلالِ آبار النفط والغاز السوريّة، وإقامة قاعدة أمريكيّة فوقها، وإيكال مهمّة السّيطرة الكاملة على سلّة غذاء البلاد إلى حُلفائها الأكراد، وهذا الحصار والاحتلال الجُزئيّ، أو بالإنابة، لعبا دورًا كبيرًا في تحديد النّتيجة النهائيّة بإسقاط النظام.
من أكبر مساخر هذا الزّمان أنّ البيان الختامي لاجتماع الدول العربيّة السّبع المُشاركة في اجتماع العقبة تحت علم الجامعة العربيّة “شكليًّا”، أو ما تبقّى منها، أكّد على “انتقالٍ سلميٍّ سياسيٍّ يُلبّي طُموحات الشعب السوري بكُلّ مُكوّناته عبر انتخابات حُرّة نزيهة، تحت إشراف الأمم المتحدة، وضرورة احترام حُقوق الشعب السوري دون أيّ تمييز على أساس المذهب، والدين، والعِرق، وضمان العدالة والمُساواة لجميع المُواطنين، وأدانوا (لكسر العتب) توغّل إسرائيل داخل المِنطقة العازلة مع سورية، وسلسلة المواقع المُجاورة، هذه الدّول التي هرول وُزراء خارجيّتها لحُضور هذا الاجتماع تلبيةً لدعوةِ بلينكن تعيش حالةً من الرّعب والهلع، عُنوانها الأبرز الخوف على حاضِر ومُستقبل أنظمتها من جرّاء هذا الخطر الذي ضرب سورية ونظامها، فالمِنطقة تعيشُ الآن بداية النّسخة الثّانية من “الخريف العربي” بقيادة الإسلام السياسي المُسلّح، بدعمٍ “ثُلاثيٍّ” أمريكيٍّ تُركيٍّ إسرائيليٍّ، لتأسيس شرق أوسط جديد، بخريطة وحُدود وقيادة إسرائيليّة.
هؤلاء الحريصون على حُقوق الإنسان في سورية لم يجتمعوا بهذه الحماسة لوقف حرب الإبادة والتّطهير العِرقي في قطاع غزة، ولم يُدخلوا عُلبة حليب واحدة إلى الرّضّع المُنازعين جُوعًا فيه، وأيّدوا بصمتهم وإزاحة وجوههم إلى النّاحية الأُخرى وبشكلٍ مُباشر استشهاد أكثر من خمسين ألفا من أبناء جِلدتهم وعقيدتهم، ثلاثة أرباعهم من الأطفال والنّساء، علاوةً على إصابة 200 ألف آخَرين، وتدمير جميع المُستشفيات، ومنع الأدوية، والمعدّات الطبيّة، ولهذا نجزم بأنّ سلامة وأمن واستِقرار الشعب السوري هو آخِر قائمة هُمومهم.
الغالبيّة السّاحقة من هؤلاء الذين تحدّثوا في بيانِ مُؤتمرهم الختاميّ عن انتخاباتٍ نزيهةٍ وحُرّة للشعب السوري، لا تعرف شُعوبهم شيئًا اسمه صناديق الاقتراع، وإن وُجدت فعليًّا فهي للزّينة، وانتِخاباتهم الصّوريّة لا تعرف شيئًا اسمه النّزاهة، أمّا الحديث عن حُقوق الإنسان فهو مُضلّل، وسُجونهم تطفح بالأبرياء وتشهد عمليّات تعذيب، وقتل، لا تقلّ فداحةً عن مُعتقل صيدنايا الدمويّ الرّهيب.
وزير الخارجيّة العِراقي الذي قد تكون بلاده تحتل المرتبة الثانية على قائمة التّخريب والدّمار الأمريكي، وقبل إيران، قال في تصريحاتٍ صحافيّة إنهم، أي المُجتمعين السّبعة، لا يُريدون تِكرار ليبيا جديدة في المِنطقة، ونقول لهم أنّكم تُريدون أو لا تُريدون لستم أصحاب القرار، ومُجرّد دُمى تُحرّكها أمريكا المُمثّلة في مُؤتمركم الذي هرولتم للمُشاركة فيه، بوزير خارجيّتها الذي هندس حرب الإبادة، وما زال، في قطاع غزة، ووضع خطّة لتهجير مِليونين من أبنائها، ووفّر الغطاء لحرب التّجويع من خلال رعاية مُفاوضات وقف إطلاق النّار المَهزلة على مُدّة 14 شهرًا في القاهرة والدوحة.
***
نعم سورية سيُحوّلها العُدوان الثلاثي إلى ليبيا ثانية، لأنّه النّموذج الأمريكي الإسرائيلي الجديد الذي انتقل بنُسخته إلى السودان، وقد يتمدّد إلى مُعظم دول المِنطقة من خلالِ حربٍ أهليّةٍ طائفيّةٍ أو عِرقيّةٍ، يجري نَفْخُ نارها حاليًّا وبدقّةٍ غير عاديّة.
الإسلام السياسيّ “الدّعوي” نجح في إطاحة الأنظمة في مِصر وليبيا وتونس واليمن، وفشل في الأردن والعِراق والمغرب وسورية، ولكنّ الإسلام السياسيّ المُسلّح الجديد قد يكون أكثر خُطورةً ونجاحًا، وما حصل ويحصل في سورية هو الدّليل الأبرز على ما نقول، فالعرّاب الأمريكي قادرٌ على تغيير جِلده وواجهاته وأدواته.
ختامًا نقول إنّ على الدّول التي تواطأت مع المشاريع الأمريكيّة لنشرِ الفوضى وتغيير الأنظمة في المِنطقة بحُجّة الديمقراطيّة وحُقوق الأنسان، أن تتحسّس رأسها، فالفوضى المُسلّحة قادمة انطلاقًا من سورية، وستكون الغَلبَة في النّهاية لطوفان الأقصى بنُسخته الأصليّة السنواريّة الوطنيّة المُشرّفة المُعادية لأمريكا وإسرائيل.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم