عبد الباري عطوان
عندما يخرج علينا أنتوني بلينكن بتصريحٍ يُدلي به وهو في طريقه إلى أنقرة ويُدافع عن الضّربات الإسرائيليّة المُكثّفة التي دمّرت أسلحة ومخازن وسُفُن وقواعد ومطارات جويّة وطائرات، فإنّ هذا يعني أنّ الولايات المتحدة ليست بعيدةً عن ما يحدث في سورية بل شريك أساسي في المُخطّط إعدادًا وتنفيذًا.
بلينكن الذي كانَ أحد أبرز مُهندسي حرب الإبادة في قطاع غزة ولبنان، يُبرّر هذه الغارات بقوله “إنّ الهدف من مئات الضّربات الإسرائيليّة على مواقعٍ عسكريّةٍ استراتيجيّةٍ هو منع وقوع عتاد الجيش السوري في الأيدي الخطأ.
لا نعرف من هي الأيدي الخطأ، فالنظام السوري انهزم وجيشه استسلم، والنّظام الجديد الذي حلّ محلّه على علاقةٍ قويّةٍ بالولايات المتحدة وحليفها التركي، ولم يُصدر أيّ بيان يُدين هذه الغارات، ولكن ما نعرفه أنّ بلينكن وسادته في البيت الأبيض، سواءً كانوا السّابقين (بايدن) أو القادمين (ترامب)، يُريدون القضاء كُلِّيًّا على المُقاومة، وتدمير ونزْع سلاح أي دولة أو نظام يتضامن مع المُقاومة سواءً في لبنان أو فِلسطين المُحتلّة.
***
هذا السّلاح المُدمّر، وتصل قيمته إلى عشرات المِليارات من الدولارات، ليس ملك شخصي للنظام السّابق، بل هو مُلكٌ للشعب السوري بمُختلف طوائفه، وتدميره هو عُدوانٌ على سورية، ومِن المُؤلم أنّ الوحيد الذي أدانَ هذه الغارات هو أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة، بينما التزمت مُعظم الدّول العربيّة الصّمت، وكأنّ سورية إحدى دول أمريكا الجنوبيّة.
هذه الغارات الاسرائيلية المُكثّفة التي جاءت بعد أقل من 24 ساعة على سُقوط النظام السوري السّابق ولجوء رئيسه بشار الأسد إلى روسيا، رسالة مُوجّهة إلى إيران التي ستكون الهدف القادم لعُدوانٍ إسرائيليٍّ ضخمٍ لتحقيق هدفين رئيسيّين، الأوّل تغيير النظام الإيراني على الطّريقة السوريّة، وتدمير كُل المُنشآت النوويّة، واغتيال جميع العُلماء النوويين سيرًا على النّهج العِراقي.
نحنُ لم نأتِ بهذه النّتيجة من عِنديّاتنا، وإنّما استنادًا إلى تصريحات بنيامين نتنياهو الأكثر احتفالًا بسُقوط النظام السوري، وببدء العصر الصّهيوني في الشّرق الأوسط الجديد، ويُمكن تلخيص هذه التّصريحات في النقاط التالية:
أوّلًا: تأكيده أنّ قصف وتدمير معدّات عسكريّة سُوريّة يأتي في إطار استراتيجيّة مُتسلسلة ومُوحّدة، بدأت بضرب “حماس” واغتيال السيّد حسن نصر الله، وقيادات الصّف الأوّل في الحزب ممّا أدّى إلى إضعافه على حدّ قوله.
ثانيًا: جاءت عمليّة “إضعاف” حزب الله في نظر نتنياهو، وتدمير المعدّات العسكريّة السوريّة، خوفَا من وصولها إلى الحزب في لبنان، أو ظُهور فصائل مُقاومة جديدة تستخدمها ضدّ النّظام الجديد في سورية.
ثالثًا: الاستعداد الإسرائيلي للهدف الأكبر والعقبة الرئيسيّة أمام قيام الشّرق الأوسط الصّهيوني الجديد، أي إيران، وتغيير النّظام فيها من خِلال “ثورةٍ داخليّة” بدعمٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ مُباشر.
رابعًا: صبّ الزّيت على نارِ الحرب الطائفيّة بين السنّة والشّيعة، الأمر الذي يتطلّب تحييد سورية كُلِّيًّا، وعدم الاكتفاء بإزالة النّظام فيها، بل نزْع جميع أسلحتها رُغم أنّه لا تُوجد أيّ نوايا (حتّى الآن) للنّظام الجديد لاستِخدامها ضدّ دولة الاحتلال.
***
نتنياهو قالها بكُلّ عجرفةٍ وغُرور بتوجيهه رسالة إلى الشّعب الإيراني شرح فيها خطوته القادمة أبرز ما فيها تأكيده “أنّ الإيرانيين يُعانون تحت حُكمٍ مُتسلّطٍ، وسيأتي اليوم الذي ستكون في إيران حركة”، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أضاف “سنُحقّق هذا المُستقبل معًا، وأبكر ممّا يظنّ البعض وسنحوله معًا إلى منارةٍ للازدهار والتقدّم والسّلام”.
اغتيال الخُبراء السوريين الكِبار على أيدي خلايا المُخابرات الإسرائيليّة، وتعمّد الجيش الإسرائيلي قصف معامل الأسلحة الكيماويّة، ليس له إلّا تفسيرٌ واحد، وهو وجود قناعة عند قطاع في الشعب السوري يُمكن أن يستخدم هذه الأسلحة في المُستقبل المنظور ثأرًا لعمليّة تدمير سورية وزعزعة أمنها واستقرارها، فهذا القطاع ربّما يُريد أن يكون مُختلفًا عن النّظام السّابق، وحساباته الخاسِرة والمُتردّدة، والنّظام الجديد بارتباطه مع تركيا وأمريكا وربّما إسرائيل.
سورية ليست ليبيا ولا تونس، ولا حتّى مِصر، ولذلك لا نعتقد أن العُدوان الثّلاثي الأمريكي- التركي- الإسرائيلي سيُحقّق أهدافه في نَزعِ عُروبتها، وقطع صِلاتها بماضيها المُشرّف.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم