فصلت الولايات المتحدة ثوبا ديمقراطيا ينسجم مع المزاج العراقي. وهو مزاج قاس في تطرفه، فلا صبر يقيه شر الشطط ولا حلم يبلغ به مراده، بعيدا عن الاهواء المتقلبة وهو لا يستند في تقلباته إلى قانون يسبقه أو حتى يلحق به.
لذلك فإن ديمقراطية العراقيين أمر لا يمكن تخيل وقوعه إلا إذا كانت نوعا من البلاغة العابرة. فكيف الحال بهم إذا كانت الأفكار الشمولية، دينية كانت أم مدنية، هي التي تتحكم بنهج حياتهم وتصرف أساليب عيشهم وتسوق مصالحهم؟
من الطبيعي أن تنتهي الأمور إلى ما هي عليه الآن في العراق.
فشل مروع يضرب في كل الاتجاهات. ما من جهة تملك سلطة القرار. اما الشعب فإنه موزع في مواقفه كعادته بين الرغبة في استمرار الفساد وبين الدعوة إلى فساد أقل، بعد أن أصبح الفساد جزءا لا يتجزأ من الخيار الديمقراطي.
فالمظهر الديمقراطي الوحيد الذي يمكن أن يعتد به في العراق هو مبدأ فصل السلطات الثلاث. وهو مبدأ يقوم هناك على تقاسم تلك السلطات بين الأحزاب والكتل السياسية الحاكمة، التي يخطر لها أحيانا أن تلعب دورا معارضا، كما يفعل مقتدى الصدر، وهو معمم وزعيم ميليشيا، سبق لها أن ارتكبت جرائم مروعة في حق العراقيين.
اما الكتل التي تدعي تمثيل سنة العراق فإنها تلوح بعصا معارضة وهمية في وجه الحكومة هي ذاتها العصا التي تستعملها في ترويع معارضيها من السنة ممن ضربهم عصف التشرد والنزوح والتهجير فانتهوا سكانا أبديين في المخيمات.
بالنسبة لتلك الأحزاب التي تدعي المعارضة من داخل الحكومة والبرلمان فإن استمرار الفصل الطائفي ضروري لبقائها في التركيبة السياسية، من غيره تفقد مصالحها التي ينص عليها الدستور.
لقد رُسمت خرائط الديمقراطية الجديدة في العراق لتكون أشبه بالمتاهات، مَن يدخل إليها فهو مفقود حتما. يُسمع صوته غير أن أحدا لا يمكن ان يرى ما يفعله. لذلك حين تضطرب المصالح وتعلو الاتهامات المتبادلة بين الأطراف المتناحرة تجري التسويات داخل مبنى مجلس النواب بطريقة ديمقراطية، كما جرى مؤخرا حين تم سحب الثقة من وزير الدفاع، من غير سبب ملزم.
فالوزير المقال استغاث بالسلطة القضائية لتعينه على فساد السلطة التشريعية من غير أن يستند على حائط السلطة التنفيذية الهش. ولأن النظام الديمقراطي في العراق قائم على أساس الاطمئنان العميق لوجوده بعد ان رسخ ذلك الوجود اجتماعيا عن طريق الفتنة الطائفية فقد سار إلى الدفاع عن نفسه بطريقة تفصح عن تمكن المزاج العراقي من القانون.
بسرعة البرق وفي وقت قياسي ومن غير بحث جنائي استُنفر القضاء ليعيد الطاولة التي قلبها وزير الدفاع إلى وضعها الطبيعي.
في ربع ساعة أقر القضاء أن ليس هناك فاسدون في العراق.
لقد وجهت السلطات الثلاث مجتمعة ضربتها إلى وزير الدفاع المتمرد على أصول العملية السياسية، غير أن اقالة وزير من منصبه لا تتطلب كل ذلك العناء، لولا أن وضع الكتل السياسية الحاكمة في العراق هو من الهشاشة والهزال، بحيث لا يمكنه الوقوف صامدا أمام الشعبية التي حاز عليها وزير الدفاع، بعد اعادته الجيش العراقي إلى الواجهة وقيامه بمواجهة الفاسدين والاعلان عن أسمائهم.
وهو ما لم يحسب حسابه أحد. لذلك نسي الجميع خرافة الفصل بين السلطات الثلاث، وظهروا على حقيقتهم قطيعا موحدا في مواجهة فرد وحيد.
الديمقراطية في العراق ظهرت في أجل صورها في تلك الحادثة التي ستكون استثنائية في تاريخ العملية السياسية الفاشلة. ذلك لأنها ستكون بمثابة درس لكل من يتوهم أن هناك قضاء مستقلا أو مؤسسة تشريعية تقوم بسن القوانين وصيانتها والدفاع عنها أو مؤسسة تنفيذية تحتكم في علاقتها بالناس إلى القانون.
ديمقراطية الأحزاب الشمولية الحاكمة في العراق هي مساحة لتبرير كل أنواع الفوضى، وما نتج عنها من عمليات فساد كبرى أدت إلى ضياع العراق وتحويل مواطنيه إلى رهائن لشتى أنواع انتهاز الفرص غير الأخلاقية.