إن ما يميز العصر هو فائض الدِّين وفائض الدَّين العام. كلاهما يؤديان إلى من هو أقوى وأكثر قدرة على تحصيل دينه. ندين للخالق نخضع له، نسدد له ثمن خلقنا بالعبادة، بالدين كما يقول الفقهاء. ندين لصاحب رأس المال، نخضع له، نسدد له ثمن سيطرته علينا من نتاج عملنا. يسيطر على عملنا يقتطع منه ما يحتاج ولا يبقى للعاملين إلا ما يسد الرمق. في الحالتين هناك وسطاء يقومون لدى صاحب الخلق وصاحب المال وهؤلاء هم رجال الدين ورجال المال. يخدمون السلطة السياسية، وعملياً يخضعون الدين للسياسة. والعلمانية يحققها من يرفضها؛ شاء أم أبى. ما يقوم به رجل الدين من جباية لخدمة منشآته وخدمة أغراضه طبعاً وتراكم المال في البنوك، يقوم به وسطاء النظام المالي لخدمة هياكل البنوك ومصالحهم في آن واحد. يمكن القول إن السوق الديني والسوق الرأسمالي متداخلان. يحتاج المال إلى إيديولوجيا تقدم له خدمات الوعي. فالتحالف الديني الرأسمالي مبارك دائماً. وصاحب هذا الكون يبرر ذلك. أو هكذا فهموا. المهم أن لا يكون هناك من يخرج على السلطة، فإذا خرج فالويل والثبور وعظائم الأمور. في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من هذا القرن خرج العرب إلى الميادين يحتجون على السلطات. انزعج بعض المثقفين ممن لم تتطابق الأحداث مع أفكارهم فأنكروا الثورة بحجة عدم وجود برنامج يليق بالمثقفين. امتدت عدوى ميدان التحرير، إلى ساحات العالم وسميت ميادين. صارت اسماً علماً لساحة يلتقي فيها الناس بكثافة ليرفضوا نظامهم السياسي أو يرفضوا سياسات النظام. الحروب الدينية يتولاها وكلاء الله، بلغ من قلة تواضعهم أن اقتربوا من الذات الإلهية، ظنوا ذلك، ووضعوا أنفسهم مكان الخالق، ووضعوا سنناً وتفسيرات للقرآن جديدة، سموها قوانين الدولة الجديدة. خلقوا ديناً جديداً سطحياً فارغاً مفصولاً بالكامل عن الدين التقليدي. الحروب المالية يشنها وكلاء المال وأصحابه. تَمنُع اليونان عن الدفع يزعزع النظام المالي لأوروبا، يزعزع أساس الملكية الخاصة، والأهم من ذلك يزعزع فكرة أوروبا التي بنيت منذ القرنين 18 و19 حول أثينا وروما. الحالة اليونانية تهدد نمط العيش وكيفية الوجود، في شمال المتوسط. أما الحرب عندنا، في جنوب المتوسط، فهي تهدد الوجود بذاته سواء كان ذلك الوجود سنياً أو شيعياً أو مسيحياً. الأهم أنها تهدد الوجود العربي الذي ما عاد مطلوباً عالمياً إلا أن يتشكل من عناصر ومكونات ثائرة ضد عروبتها ومن أجل قوميات أو إثنيات من الصعب أن يكتب لها البقاء. وحدها إسرائيل استطاعت إقامة دولة وذلك بدعم إمبريالي كامل. للدينيسوق وللماليسوق؛ السوق واحدة، فيها الخراب والدماء على أنواع، والقتل على أنواع وأشدها السوق الدينية. وهناك ما يهدد السوق في شمال المتوسط، وما يهددها في جنوبه؛ لكن المطلوب أن يكون الجنوب أكثر دموية. خلاصة الأمر يمنع على الجماهير النزول إلى الميادين للمطالبة بحقوقهم. استبداد من نوع جديد بالإيديولوجيا في كل الأحيان، وبالسلاح حين يلزم. عندنا يلزم السلاح فهنا الكثير من الإرهاب والتكفير. حروب أهلية، والقتل في الموقع. محاكمات عرفية. لا لزوم للمحاكمات. هنا المواجهة بسلاح القتل. هناك المواجهة بالنقاش علّ الكلام ينفع. حين لا ينفع الكلام يجري الانتقال إلى السلاح. فارق آخر: إن رب الكون لا يحتاج إلى شيء. أتباعه يحتاجون إلى المال فينطقون باسمه. أرباب المال يحتاجون إلى كثير من المال الذي يقتطعونه من الفقراء. جشعهم غير محدود. تشترك ذواتهم (كما يتوهمون) مع الخالق في عدم المحدودية. أصحاب المال يملكون العالم. العالم سوق واحدة لمالهم. سوق تلزمها إيديولوجيا تقدمها لهم السوق الدينية. عالم معولم، أي متشابك متداخل أكثر مما نظن. عالم يحمي المال بكل قواه، أما الإيديولوجيا الدينية فهي تتغير حسب سوق المال. تتولد أديان جديدة، لا علاقة لها بتراثها وبتاريخها. دول تصير مارقة. مجتمعات تتفكك. الريبة من كل شيء، الارتياب في كل شيء، بما في ذلك المعرفة البشرية. أقنوم واحد لا يرقى إليه الشك هو الرأسمال المالي.
الفضل شلق
السفير
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words