في نهايات عصر حسني مبارك، وكلما ابتعدت آمال التغيير، أتت هذه الجملة: “البلد بلدهم”، ولأنه “بلدهم” فلم يكن في الأمر ما يدعو للغيرة على مصر، التي كانت، ولا الانشغال بمستقبلها. وجاءت ثورة 25 يناير لتعيد الاهتمام بمصر إلى الواجهة، إلى القلب، بالحق أو بالباطل، ولنا الظاهر الذي هو الحق؛ “البلد بلدنا”. كسرت الثورة محرمات، ما هو معلوم من “الدولة” بالضرورة يجب أن يناقش. نزعت الثورة القدسية عن أوهام، وكسرت محظورات لم تكن تتجـاوز الهمس أو نقاش الغرف المغلقة: “الإلحاد”، “المواطنة”، “مادة الدين في الدستور”، “الجيش”، “الكنيسة”، “الأزهر” الذي تراكمت على جدران جامعته، منذ 30 يونيو 2013، طبقات من اللعنات على شيخه الطيب، كلما طُمست واحدة سارعت أختها بابتكار في فنون السباب غير اللائق.
في الأيام الماضية أصبح الأزهر في مرمى النيران، بسبب ما قيل إنه فتوى تكفير، ثم إيضاح ونفي لما قيل إنه فتوى تكفير، ثم ملحقات وتوابع ما زالت تتردد أصداؤها، نظرا لضباب ودخان اختلط فيه ما يسمى دينا بالسياسة. في الدين تكون القاعدة: “الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات”. وفي السياسة لا شيء واضح، تجري الأمور على الأعراف، وتكون القاعدة: “هذا صواب وهذا خطأ”، بعيدا عن ثنائية الحق والباطل، صرامة الحلال والحرام؛ فما يكون هنا صوابا ربما يكون في مكان آخر خطأ، وما نراه، هنا والآن، خطأ قد يصبح في زمن لاحق مستحبا.
وفي قراءتي المتواضعة لبعض وقائع التاريخ الإسلامي أتوقف أمام “حروب الردة”، وأنتبه لقول أبي بكر الصديق: “والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لحاربتهم عليه”. لم يتطرق إلى الشروع في الحرب ردا على امتناعهم عن الصلاة أو الصيام، فهذه عبادات بين العبد وربه الذي يغفر الذنوب جميعا، أما “الزكاة / الضرائب فهي رمز الانصياع للدولة، حق لا يصح التهرب من أدائه، واجب وطني يصبح التخلي عنه ـ في حالة الدولة الناشئة ـ من الخيانة الوطنية. وفي حالة ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” كان على الأزهر أن ينأى بنفسه عن الانزلاق بأدوات الدين، وأحكامه القطعية، إلى وحل السياسة، كما حصل في مؤتمر الأزهر الشريف عن مواجهة العنف والتطرف، على لسان الشيخ إبراهيم صالح الحسيني مفتي نيجيريا. تقول المصادر المتاحة إن مؤلفات الشيخ “زادت على بضع مئات الكتب منها ما هو مطبوع، ومنها ما هو مخطوط، وقد تناولت هذه الكتب عدة مجالات منها قواعد تفسير القرآن الكريم وعلوم الحديث، والفقه وأصول الفقه، ومصطلح الحديث والمواريث، وقد كتب أيضا في البلاغة والنحو، والسيرة والتاريخ والاقتصاد والمنطق والتصوف الإسلامي، وفي نقد المذاهب المادية القديمة والمعاصرة وغيرها من الموضوعات التي تمس حياة المسلم المعاصر”.
ولكن الشيخ الحسيني الذي جمع هذه العلوم والمعـارف قال في المؤتمر إن المتطرفين “قاموا بإشاعة الفساد، وهتك الأعراض، وقتل الأنفس، ثم انتهوا إلى تكفير الأمة فتحقق فيهم الحرابة… فهم أشد من بدعة الخوارج. وقتال المسلم كفر، وقد قتلوا المسلمين، فقد حكموا على أنفسهم بالكفر بأفعالهم”. وهذا خطاب ينتمي إلى عصر ما قبل الدولة، فما الحكم عليهم لو قتلوا غير المسلمين؟ وكيف نواجه هذه الفتوى بفتوى داعشية مضادّة يدعي أصحابها أنهم يصلحون في الأرض ولا يفسدون؟
في بيان الأزهر نفي لاتهام “داعش” أو غير “داعش” بالكفر، على لسان الشيخ الحسيني الذي أوضح أن أفعالهم “ليست أفعال أهل الإسلام، بل هي أفعال غير المسلمين”. جميل ألا تتورط مؤسسة دينية أو مسلم في تكفير مسلم آخر؛ فالسياق هنا إنساني، لا علاقة له بالكفر والإيمان، “فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر”، ولكنه يرتبط بالتصدي لجرائم ضد الإنسانية، يستحل فيها مسلمون أرواح مسلمين، وأموال غير المسلمين ونسائهم، ويستقوي فيها طرف مسلم بجيوش استعمار مدفوع الأجر، يطمع في نهب ثروات البلاد، وقد أخذ حسابه مقدما، ثم يتلكأ في حماية المسالمين، في تباطؤ أقرب للتواطؤ مع طرف يسهل رد عدوانه، وكفى الله الآمنين شر القتال.
ولكن البيان يكاد يتهم غير المسلمين بارتكاب القتل، وبهذا ينزع عن مثل هذه الجريمة سياقها التاريخي، الذي واكب مثلا غزو الأميركتين تحت ظلال الكتاب المقدس؛ فلم يعد “غير المسلمين” مهووسين بعمليات القتل الجماعي للأبرياء وتقطيع الرؤوس، وغيرها من الجرائم التي تنفرد “داعش” بممارستها، لكي تنتصر بالرعب على المسلمين وغير المسلمين على السواء.
وقد وفق الأزهر إلى الصواب في البيان بقوله: “لو حكمنا بكفرهم لصرنا مثلهم، ووقعنا في فتنة التكفير، وهو ما لا يمكن لمنهج الأزهر الوسطي المعتدل أن يقبله بحال”، فلهذا لزم البيان حتى لا يفهم أحد كلام الشيخ إبراهيم صالح الحسيني مفتى نيجيريا خطأ، أو يحمله ما لا يحتمل.
ما لم يحسمه البيان، بشكل قاطع وصريح، هو ضرورة التزام كل الهيئات الدينية في العالم، بالنأي عن الخوض في قضايا سياسية، وخلط الدين بالسياسة، بعد أن أدى الاستثمار الانتهازي للدين إلى فتن بدأت بـواقعة التحكيم، وخداع عمرو ومعاوية للإمام علي، واستغل ضد عبدالناصر، حين حملت صحيفة “عكاظ” ذات يوم في الستينات، عنوان: “جمال عبدالناصر كافر بالإجماع”. وفي زمن لاحق ظهر كتاب بغلاف أخضر يحمل عنوان “الجهاد في سبيل الله”، يحمل أسماء: أبي الأعلى المودودي، حسن البنا، سيد قطب. وأعلى اسم الكتاب ومؤلفيه: «المملكة العربية السعودية – وزارة المعارف». ولكن أمواج السياسة جرفت سرابا كثيرا فانتهت الأمور إلى ما انتهت إليه الآن.
في مسألة التكفير يتسابق المزايدون، يحل بعضهم مكان الآخر، ففي كتاب “الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع” كلام غير إنساني، خارج العصر، يضمن تخريج تكفيري تحت التمرين، قرأ لمؤلف الكتاب قوله إن للمضطر: “قتل مرتد وأكله وقتل حربي ولو كان صغيرا أو امرأة وأكله لأنهما غير معصومين. وإنما حرم قتل الصبي الحربي والمرأة الحربية، في غير الضرورة”. فمن يأتي الأرهاب؟!
سعد القرش
أحرار العراق
تعليقات الزوار سيتم حدف التعليقات التي تحتوي على كلمات غير لائقة Will delete comments that contain inappropriate words