-1-
يفقد العالِم مكانته العالية ، وموقعه المتميّز ، حين يصطّف مع الظالمين ويكون من أعوانهم .
من هنا أطلق على طبقة العلماء الراكنين للحكّام الظالمين اسم (وعّاظ السلاطين) .
والحقيقة التي لا يشوبها شك هي :
انّ المرء يحشر مع من أحبّ
-2-
وقد تقول :
لماذا لا يتصل العالِم بالحاكم لينصحه ويُنير له الدرب
-كما هي وظيفته - ؟
والجواب :
ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمد (ع) للمنصور العباسي :
( من أراد الدنيا فلا ينصحك ،
ومن أراد الآخرة فلا يصحبك )
وهو فصل الخطاب في هذا الباب
فالطاغوت لا يُصغي للنصائح بل يعدّها مواقف عدوانية ، تدفعه للثأر والانتقام ممن يسديها له !!
ومصاحبة السلطان الغاشم مسار محموم ، ومسلك مذموم ، وخيم العواقب .
-3-
وقد حفظ لنا التاريخ صوراً رائعة عن محاولات قام بها بعض السلاطين، لاستمالة بعض العلماء الزُهّاد، فلم تفلح واصطدمت بجدارٍ من الرفض الشديد ، والاصرار العنيد على البعد عنهم وعن ممارساتهم المحفوفة بألوان من الشوائب ...
ومن ذلك ما ذُكر من علاقة صداقة متينة كانت تربط (هارون) (بسفيان) الثوري .
فلما تربّع الأول على دست السلطة (زارهُ العلماء بأسرهم الاّ سفيان الثوري فانه لم يَأتِهِ )
فكتب السلطان له رسالة يقول فيها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله هارون أمير المؤمنين الى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري .
أما بعد يا أخي :
فقد علمتَ انَّ الله آخى بين المؤمنين، وقد آخيتُك في الله مواخاة لم أصرم فيها حَبْلَكَ ، ولم أقطع منها ودّك ،
واني منطوٍ لك على أفضل المحبّة ، وأتمّ الارادة ، ولولا هذه القلادة التي قلّدنيها الله تعالى ، لأتيتُك ولو حَبْوأ ، لِمَا أجدُ لك في قلبي من المحبّة ، وانه لم يبق احدٌ من اخواني واخوانك الاّ زارني وهنأني بما صرتُ اليه
وقد فتحتُ بيوت الأموال وأعطيتهم المواهب السنيّة ما فرحت به نفسي وقرّت به عيني ،
وقد استبطأْتُكَ ،
وقد كتبتُ كتاباً مني اليك أعلمك بالشوق الشديد اليك ،
وقد علمتَ يا ابا عبد الله – ماجاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته ،
فاذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل ))
ثم أعطى الكتاب لعبّاد الطالقاني ، وأمره بايصاله اليه ، وأنْ يحصى عليه بسمعه وقلبه دقيق أمره وجليله، ليُخْبِرَهُ به .
قال عبّاد :
( فانطلقت الى الكوفة ، فوجدتُ سفيان في مسجده فلما رآني على بُعد ، قام وقال :
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ،
وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق الاّ بخير
قال :
فنزلتُ عن فرسي بباب المسجد ،
فقام يُصلي ولم يكن وقت صلاة ،
فدخلتُ وسلمتُ فما رفع أحدٌ من جلسائه رأسه اليّ .
قال :
فبقيتُ واقفاً ، وما منهم أحد يعرض عليّ الجلوس ، وقد علتني من هيبتهم الرعدة ،
فرميتُ بالكتاب اليه ،
فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه ، كأنّه حيّة عرضتْ له في محرابه ،
فركع وسجد وسلّم ،
وأدخل يده في كُمّه وأخذَه وَقَلَبَهُ بيده .
قال عباد :
فمّد بعضهم يده اليه ، وهو يرتعد كأّنه حية تنهشه ،
ثم قرأه ،
فجعل سفيان يبتسم تبسُم المتعجب ،
فلما فرغ من قراءتهِ قال :
اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره ،
فقيل له :
يا ابا عبد الله انه خليفة ،
فلو كتبتَ اليه في بياض نقيّ لكان أحسن ، فقال :
اكتبوا للظالم في ظهر كتابه ،
فان كان اكتسبه من حلال فسوف يُجزى به ،
وان كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ،
ولا يبقى شيء مسّه ظالم بيده عندنا ، فيُفسدُ علينا ديننا !
فقيل له :
ما نكتبُ اليه ؟
قال :
اكتبوا له :
بسم الله الرحمن الرحيم
من العبد الميت سفيان الى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سُلب حلاوة الايمان ، ولذة قراءة القرآن
أما بعد :
فاني كتبتُ اليك أعلمك أني قد صرمت حبلك وقطعتُ ودّك ،
وانك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت على بيت مال المسلمين .
فأنفقته في غير حقه ،
وأنفذتهُ بغير حكمه ،
ولم ترض بما فعلته وانت ناءٍ عني حتى كتبتَ اليّ تشهدني على نفسك ،
فاما أنا قد شهدت عليك ، أنا واخواني الذين حضروا قراءة كتابك .
وسنؤدي الشهادة غداً بين يديْ الله الحكم العدل
يا هارون :
هجمتَ على بيت مال المسلمين بغير رضاهم ...))
ولا نريد الاسترسال بذكر تمام تلك الرسالة الساخنة التي لم تُبْقِ ولم تذر، ... فقد عبّرت خير تعبير عن الموقف الرصين الرافض، لا لكلّ ألوان الظلم فحسب بل لكلّ الاغراءات التي يقدّمها السلطان بغية ايقاع العلماء في فخّه .
والمهم هنا :
تشديد الانكار على انفاق المال العام في قنوات لا تتسم بالمشروعية .
ومن هنا بالذات :
علت صيحات العلماء ، وتوالت مستنكرة ما شهدته السنوات الثمان العجاف (2006-2014) من تبذير وإسراف في انفاق المال العام فضلاً
عن الاستمرار الرهيب في نهبه : بالعقود الوهمية، والعمولات الفلكية، والأساليب الشيطانية، حتى أصبحت خزانة الدولة خاوية تشكو العجز الفظيع ....
وأمضُّ ما يوجع القلب :أنَّ هناك من يتبرقع بالدين ، ويتظاهر بالصلاح وسيماء المتقين ، كان في طليعة السارقين ..!!
إنّ موقف المرجعية الدينية العليا ، المندّد بتقصير الحكومة السابقة في الخدمات ، وغضها النظر عن ملاحقة ومحاسبة كبار اللصوص والمفسدين ، يعتبر العامل الأبرز في إفشال اطروحة (الولاية الثالثة) التي وقانا الله أيامنها الداكنة